تتسع حلقات أنشطة تهريب البشر في ليبيا، إذ لم تعد تقتصر على دور العصابات المنتشرة في مناطق الجنوب الليبي التي تفرض إتاوات على المهاجرين غير النظاميين من الأفارقة الراغبين في عبور البحر نحو أوروبا، وإنما نشط بعض السكان المحليين في الأمر كذلك لتحصيل عوائد مالية في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، الذي تشهده تلك المناطق، لتتسع الحلقة وتشمل حرفاً ونشاطات أخرى غير التهريب عبر الدروب والمسارب الصحراوية، ليتحتم على المهاجر دفع المقابل في كل محطة يستقر فيها قبل المغادرة نهائياً.
ورغم الإجراءات المتعددة والمحاولات الحكومية في ليبيا للحد من ظاهرة تهريب البشر، إلا أن عدد المهاجرين غير النظاميين شهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال العام 2021 الذي يشرف على الانتهاء، نظراً لانشغال السلطات المحلية بتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مع الفراغ الأمني.
وفي وقت سابق من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كشف تقرير إحصائي إيطالي، أنه منذ بداية 2021 وحتى 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، اعترض خفر السواحل الليبي 28.6 ألف لاجئ ومهاجر في عرض البحر وأعادهم إلى الأراضي الليبية.
وأشار التقرير الصادر عن مؤسسة "ميغرانتس" إلى أن "هذا الرقم غير مسبوق، وأنه منذ عام 2016، تجاوز العدد الإجمالي للأشخاص المعادين حتى الآن 100 ألف شخص"، لافتا إلى أنه "منذ بداية العام حتى 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، بلغ عدد اللاجئين والمهاجرين الذين تمكنوا من الوصول إلى إيطاليا أو مالطا على طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، حوالي 56.7، ألف شخص، وهم بذلك أقل من ضعف عدد الذين تم اعتراضهم وإعادتهم إلى ليبيا".
رافد مالي كبير للجنوب الليبي
وتفيد التقارير الرسمية والمحلية بأن أنشطة التهريب أضحت تمثل رافداً مالياً كبيراً لمناطق الجنوب الليبي، بينما يرجع ناشطون ضلوعهم في الأمر إلى الصعوبات المعيشية والواقع الاقتصادي المتردي في هذه المناطق.
يقول أحد سكان منطقة الجنوب الليبي الذي طلب عدم ذكر اسمه، إن العديد من سكان المنطقة اضطروا إلى العمل في الهجرة غير النظامية، معتبرا أن الظروف الاقتصادية التي يعيشها السكان في منطقة الجنوب والفراغ الأمني دفعهم إلى العمل في هذا النشاط وفرض "إتاوات" على المهاجرين.
لكن تقريرا حديثا صادرا عن جهاز الهجرة غير الشرعية في ليبيا (حكومي)، يُظهر أن 85% من عمليات توافد المهاجرين تديرها عصابات تهريب، وأن معظمهم من دول الشمال الأفريقي، فضلا عن الدول الأفريقية الأخرى، لاسيما الصومال وإريتريا وتشاد وإثيوبيا والنيجر.
كما أن لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي، أشارت في تقرير لها مؤخرا إلى أن معظم الجماعات المسلحة الضالعة في عمليات تهريب البشر والبضائع في ليبيا لها صلات بالمؤسسات الأمنية الرسمية في البلاد، لافتا إلى ان العائدات المالية الناجمة عن عمليات التهريب، وفقا للتقديرات ذاتها، تشكل نحو 90% من إجمالي الدخل المكتسب في جنوب ليبيا، التي يفد إليها المهاجرون من البلدان الأفريقية المجاورة.
ويقول كهال عيسى، وهو مهاجر إريتري لـ"لعربي الجديد" :" هاجرت من إريتريا إلى ليبيا عبر مراحل كثيرة أولها بدفع مبلغ مالي لغرض الدخول إلى ليبيا يبلغ 100 دولار، وعقب ذلك انتقلت إلى الجنوب الليبي، اشتغلت في الزراعة بين منطقتي مرزق وسبها، وبعد عام ونيف تحصلت على مبلغ للسفر إلى طرابلس بقيمة ألفي دينار (447 دولارا)، وبعد طرابلس بقيت في ليبيا بمنطقة قرقارش بالعاصمة من أجل الحصول على مبلغ 2500 دولار لغرض الهجرة".
كما دفع النيجيري على إسحاق، البالغ من العمر 20 عاماً مبلغ 750 دولارا من أجل تهريبه من النيجر عبر الحدود الليبية، وصولا إلى العاصمة طرابلس. وقال لـ"العربي الجديد" إن هناك مليشيات محلية في الحدود الليبية لا تسمح لأحد بالمرور إلا بعد دفع مبلغ مالي ولكل مجموعة تسعيرة خاصة بها وبعد دفع ما يتراوح بين 40 دينارا و200 دينار (الدولار يعادل 4.45 دنانير)، يتم السفر عبر مسالك صحراوية".
محطات عدة قبل ركوب البحر
يقول علي موسى، الذي ينشط في نهريب البشر، إنه أضحى يمتهن تهريب البشر منذ عام 2012 في منطقة القطرون المتاخمة للحدود التشادية في أقصى الجنوب الليبي، مؤكدا أن "هناك الكثيرين ممّن يقومون بذلك إثر تردي الأوضاع المعيشيّة في ليبيا من ارتفاع سعر الدولار وأزمة السيولة".
يقول موسى إن دخله الشهري من تهريب المهاجرين من منطقتي القطرون حتى سبها فقط أو استلامهم من الحدود التشادية أو النيجر، يتراوح بين 1500 و3000 دولار شهرياً حسب الظّروف.
ولفت إلى أنه يجري توزيع المهاجرين من قبل مليشيات محلية مسيطرة على الحدود على مجموعات تعمل في نقل الأفراد عبر الدروب، حيث يجري استلام المبلغ سواء من المهاجرين أو من المليشيات المحلية.
وبحسب مركز أويا للدراسات الاقتصادية (غير حكومي)، فإن معدلات الفقر ارتفعت في ليبيا إلى 59%، فيما قدرت الأمم المتحدة أن نحو 1.3 مليون شخص (23% من السكان)، بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، بينما يؤكد مواطنون من سكان الجنوب التقتهم "العربي الجديد" أن الظروف المعيشية الصعبة لا تبرر لجوء البعض إلى دروب غير شرعية لتحسين ظروفهم المعيشية.
ويقول سكان محليون من مدينة القطرون التي تبعد حوالي 1100 كيلومتر عن جنوب طرابلس إن هناك تزايدا بشكل مخيف للمهاجرين غير الشرعيين، عدد منهم يستوطن في أحياء عشوائية والآخر يقوم بالعبور إلى المدن الساحلية، ويستخدم المهرّبون البحر لعملياتهم في تهريب البشر إلى أوروبا، في منطقة زوارة على بعد 150 كيلومتراً غرب طرابلس.
مبالغ مالية للمليشيات والمهربين
وتعد منطقة بني وليد، الواقعة إلى الجنوب الشرقي من طرابلس، أحد مراكز التهريب الأساسية، وتضم عشرات المخازن، حيث يُحتجز المهاجرون القادمون من الجنوب بداخلها.
يقول علي بن خليفة، أحد الناشطين في تهريب البشر، إن عملية التّهريب عبر زوارة لكل مهاجر تجري مقابل دفع مبلغ يتراوح بين ألفي و4 آلاف دينار بحسب حمولة مركب الصيد الذي ينقل المهاجرين والظروف المحيطة.
وحول عملية الاحتفاظ بالأموال قال إنها تكون عبر إيداعها في المصارف أو تدويرها في السوق عبر الدخول في مشاريع كمحلات تجارية أو إنشاء شركات للاستيراد والتصدير.
ولم تعد حلقات التهريب تقتصر على الناشطين في نقل المهاجرين من مكان إلى آخر، وإنما نشطت حرف وصناعات وخدمات في كل حلقة من حلقات التهريب.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كثفت الأجهزة الأمنية الليبية في مناطق غرب البلاد مراقبة تصنيع القوارب، بحسب مصادر أمنية، بهدف الحد من استفادة مهربي البشر منها في نقاط التهريب المنتشرة على طول ساحل ليبيا الغربي. كما نشطت حلقات أخرى تعمل على توفير سلع وخدمات للمهاجرين.
وتشير إحصائيات البحرية الليبية إلى اعتراض خفر السواحل الليبي أكثر من 15 ألف مهاجر منذ بداية العام الجاري حتى نهاية يونيو/ حزيران، مقابل 12 ألفاً في الفترة نفسها من العام الماضي.
يؤكد المحلل الاقتصادي الليبي أبوبكر الهادي لـ"العربي الجديد" أن العائدات من أنشطة تهريب المهاجرين غير النظاميين تدخل في الغالب في عمليات غسيل أموال ومنها ما يدخل حسابات مصرفية في ظل ضعف الرقابة البنكية من قبل مصرف ليبيا المركزي والهشاشة الأمنية التي تعانيها البلاد.
وفي ظل الانتقادات الكبيرة التي وجهتها منظمات دولية للجهود الليبية لمكافحة تهريب البشر، تشير السلطات إلى أنها عمدت في الآونة الأخيرة إلى تكثيف الرقابة على المناطق الأساسية بين الجنوب والشمال لقطع الطريق أمام المهربين.