ارتكب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان 3 أخطاء جوهرية أدت، ضمن أسباب أخرى، إلى استمرار تهاوي قيمة الليرة مقابل الدولار، وتراجعها بمعدلات قياسية بلغت نحو 30% خلال العام الجاري، خاصة عقب تفشي وباء كورونا، وتأثر الأنشطة الاقتصادية في البلاد بالوباء، مثل الصادرات والسياحة والسفر والاستثمارات الأجنبية، واستمرار الضغوط الخارجية على أنقرة، وتصاعد الخلافات في منطقة شرق البحر المتوسط، والمتعلقة بترسيم الحدود وأنشطة التنقيب عن النفط والغاز، وأخيرا تدخل تركيا في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، وقبلها في سورية.
الخطأ الأول
إصرار أردوغان على خفض سعر الفائدة على الليرة في الوقت الذي كانت العملة التركية تواجه فيه العملة عمليات مضاربة محمومة من قبل أطراف محلية وإقليمية ودولية سعت، ولا تزال، إلى إحداث فوضى في سوق الصرف التركي، وإشاعة ذعر المستثمرين، خاصة الأجانب وأصحاب الأموال الساخنة، وكذا إثارة ذعر المدخرين المحليين الذين يرون أن مدخراتهم بالبنوك تتآكل يوما بعد يوم بسبب تراجع الليرة المتواصل مقابل الدولار واليورو.
إصرار أردوغان على خفض الفائدة في هذا الوقت بالذات يخالف الأعراف العالمية المطبقة من قبل البنوك المركزية والتي تقول إنه عندما تواجه عملتك المحلية ضغوطا، فعليك بزيادة سعر الفائدة عليها، حتى يستمر تمسك المدخرين والمستثمرين بها، ولا يهربوا إلى العملات الأجنبية، وفي مقدمتها الدولار، وهذه القاعدة ضربت بها تركيا عرض الحائط، وإن عادت إلى تطبيقها خلال الشهور الماضية عقب تهاوي سعر الليرة.
وفي الوقت نفسه، فإن زيادة سعر الفائدة على العملة المحلية تجذب مزيدا من الأموال الساخنة للدولة والتي توفر سيولة مؤقتة بالنقد الأجنبي تدعم العملة المحلية وتلبي الطلب المتزايد عليها، خاصة من قبل المستثمرين الأجانب، وبالتالي فإن ذلك الإصرار من قبل القيادة التركية على خفض سعر الفائدة خلق ضغوطا إضافية على الليرة التي لم تجد حوافز قوية مع تراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي بسبب تفشي كورونا.
نعم، أردوغان انطلق من إصراره على خفض سعر الفائدة على الليرة من عدة اعتبارات بعضها ديني، ومنها كذلك الحرص على تشجيع الاستثمار عبر خفض كلفة الأموال، وعدم تكدس الأموال في البنوك وإعادة ضخها في الأنشطة الاقتصادية، وهو ما يعني تأسيس مشروعات جديدة تساعد في خلق فرص عمل وزيادة الصادرات وخفض أسعار السلع في الأسواق وجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية. ولذا عارض أردوغان سياسة الفوائد المرتفعة منذ توليه منصبه كرئيس للوزراء أولا ثم رئيس للجمهورية، وقبل أيام قال إنه يحارب "مثلثا شيطانيا من معدلات فائدة وأسعار صرف وتضخم".
الخطأ الثاني
تدخل أردوغان في قرارات البنك المركزي، وهو ما قوض استقلالية البنك في إدارة السياسة النقدية. حدث ذلك عدة مرات، ففي أقل من 16 شهرا أقال اثنين من محافظي البنك المركزي، الأول هو مراد تشتين قايا، الذي أقاله في صيف 2019، لأسباب تتعلق بتهاوي الليرة ومعارضة قايا ضغوط خفض الفائدة في ذلك الوقت. والثاني هو مراد أويصال، الذي أصبح محافظا للبنك المركزي في يوليو/ تموز 2019، وأقاله قبل أيام.
وهذا التدخل أعطى رسالة سلبية للمستثمرين الأجانب والمؤسسات المالية الدولية بعدم استقلال البنك المركزي في إدارة السياسة النقدية المتعلقة بأسعار الصرف والفائدة والتضخم واستقرار الأسواق، والتدخل الحكومي المستمر في قرارات البنك.
كما ضغط أردوغان أكثر من مرة على البنك المركزي لخفض سعر الفائدة قبل تفشي كورونا بنسبة تصل إلى 15% خلال شهور، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه الليرة لضغوط سياسية واقتصادية لأسباب عدة منها تلاعب دول خليجية ومؤسسات أجنبية في سوق الصرف التركي، وزيادة حدة الصراع في منطقة شرق المتوسط وتداعيات الفيروس وغيرها.
الخطأ الثالث
سماح أردوغان بالتداخل بين السلطات المالية والنقدية والاقتصادية، أي وزارات المالية والاقتصاد والبنك المركزي، أو على الأقل التغاضي عنه رغم أن المعايير العالمية تفرض نوعا من الاستقلالية للسلطات الثلاث رغم أهمية التنسيق بينهما، وكذا غض الطرف عن محاولات وزير المالية المستقيل وصهر أردوغان، بيرات ألبيرق، التدخل في إدارة السياسة النقدية والضغط على البنك المركزي لخفض الفائدة والتدخل في قراراته، خاصة المتعلقة بسعر الليرة وضمان الحفاظ على استقرار الأسعار.
علما أن ألبيرق استقال قبل أيام لأسباب قال إنها صحية، لكن السبب الحقيقي هو أن وسائل إعلام تركية حملته مسؤولية تراجع الوضع الاقتصادي للبلاد وتهاوي الليرة. وهذا غير صحيح، لأن خسائر كورونا هي السبب الرئيسي في هذا التراجع كما حدث لاقتصاديات كبرى، منها الاقتصاد الأميركي، الذي انكمش بمعدلات كبيرة، وكذا الاقتصادات البريطانية والألمانية واليابانية والفرنسية.
اليوم الخميس يعقد البنك المركزي التركي أول اجتماع له برئاسة محافظه الجديد ناجي إقبال، وسيتابع العالم أول قراراته والتي من المتوقع أن تكون رفع سعر الفائدة إلى 15% مقابل 10.25% حاليا وبزيادة 4.75% مرة واحدة.
وإذا حدث ذلك، فإن هذا يعني أن ضغوط أردوغان على البنك بدأت في التراجع، وأن البنك المركزي بات يعمل باستقلالية وطبقا لمعايير فنية ونقدية بحتة، وهذا يعد أولى خطوات إعادة الاعتبار والثقة لليرة، خاصة مع تحسن المؤشرات الاقتصادية للبلاد، ومنها الصادرات التي زادت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بنسبة 5.6% لتتجاوز 17.3 مليار دولار، وزيادة الاستثمارات الأجنبية خاصة من قطاع العقارات، وبدء الحكومة تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي جديد، يعتمد على خفض نسبة التضخم، والاستقرار الاقتصادي والمالي وأسعار السلع والخدمات، بجانب تحقيق معدل نمو ثابت وعال.