تعويم الجنيه المصري

25 مارس 2021
شائعات حول تعويم الجنيه المصري (فرانس برس)
+ الخط -

عادة ما تلجأ حكومات الدول إلى قرار تعويم عملاتها الوطنية، في حال اضطرابات الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية، وتهاوي إيرادات البلاد الدولارية، وتزايد المضاربات في سوق النقد الأجنبي، وفقدان البنك المركزي السيطرة عليها، وعدم امتلاك البنك المركزي الأدوات الكافية للسيطرة على تلك المضاربات وكبحها، ومن بين هذه الأدوات وجود احتياطي كافٍ من النقد الأجنبي لسداد أعباء الدين الخارجي والدفاع عن العملة المحلية.
وتتسارع خطى التعويم في حالة سيطرة المضاربين والسوق السوداء غير الرسمية على سوق الصرف الأجنبي، وتوجيهها من قبل تجار العملة بما يخدم مصالحهم الشخصية الضيقة ويحقق لهم أرباحاً عالية على حساب المواطن والأسعار والاقتصاد الوطني.
هذا ما حدث في مصر قبل شهر نوفمبر 2016 حيث عومت البلاد الجنيه المصري في ذلك الشهر ليتراجع سعره وقتها من 8.8 جنيهات للدولار لما يقرب من 20 جنيها في شهور تالية، ثم يرتد متحسنا في السنوات اللاحقة ليدور حاليا حول 15.70 جنيها.

الدول تلجأ لتعويم عملاتها في حال اضطراب الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية، وتهاوي إيرادات البلاد الدولارية، وتزايد المضاربات في سوق النقد الأجنبي

كما شهد السودان نفس السيناريو خلال الشهور الماضية، حيث فقدت الحكومة السيطرة تماما على سوق الصرف، وهو ما أدى إلى قرار بتعويم الجنيه السوداني ليتهاوى سعره بنسبة تقارب 600% في ليلة واحدة، كما تكرر السيناريو في الأرجنتين وفنزويلا وغيرهما من الدول التي شهدت هزات عنيفة في عملاتها الوطنية.

وهناك عملات عربية تعرضت للانهيار خلال الفترة الماضية، إلا أن الحكومات لم تتخذ بعد قرارا رسميا بالتعويم، سمحت فقط بتراجع العملة المحلية مقابل الدولار، دون أن تضع حدا لهذا الانهيار، خاصة وأنها لا تملك الأدوات لفعل ذلك، فالبنك المركزي السوري بات لا يمتلك احتياطي من النقد الأجنبي، كما تهاوى احتياطي مصرف لبنان المركزي إلى النصف، ولم يعد قادرا على كبح جماح السوق السوداء والمضاربات.
من بين هذه العملات العملة اللبنانية التي تراجعت من 1500 ليرة للدولار إلى نحو 15 ألف ليرة الأسبوع الماضي، وكذا العملة السورية التي تراجعت من نحو 50 ليرة للدولار في العام 2010 إلى 4100 ليرة للشراء، و4220 ليرة للبيع حاليا.
كما امتد التراجع إلى عملات عربية أخرى منها الدينار الليبي والدينار العراقي والدينار الجزائري، وهي العملات الثلاث التي اهتزت عقب تهاوي أسعار النفط، حيث إن النفط يمثل المورد الأساسي للإيرادات العامة، وكذا تهاوت عملة اليمن الريال، كما تراجعت عملة المغرب الدرهم.

زيادة سعر الفائدة على الدولار وعوائد السندات الأميركية وهروب الأموال الساخنة يضغط على الجنيه المصري

قبل أيام، انتشرت شائعات حول تعويم الجنيه المصري مجددا، مستندة إلى احتمال تأثر إيرادات مصر الدولارية عقب الانتعاش المتوقع للاقتصاد العالمي مع تراجع مخاطر كورونا، ونزوح الاستثمارات الأجنبية من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة، وهروب الاستثمارات الساخنة من مصر إلى الخارج، وزيادة كلفة الاقتراض الخارجي لمصر بسبب زيادة سعر الفائدة على الدولار من قبل البنك الفيدرالي الأميركي.
وبالطبع فإن هذا الهروب للأموال الساخنة من مصر وغيرها من الأسواق الناشئة تزيد وتيرته في حال ارتفاع عوائد السندات الأميركية، وهنا تكون مصر مجبرة على زيادة سعر الفائدة على الجنيه المصري للاحتفاظ بتلك الأموال الساخنة، وإلا تعرض الجنيه المصري لضغوط شديدة، خاصة وأن خروج تلك الأموال تضغط بشدة على الاحتياطي لدى البنك المركزي.

وهذه النقطة تحديدا ألمح إليها روبين بروكس، كبير الاقتصاديين بمؤسسة التمويل الدولي قبل أيام حينما قال إن مصر قد تضطر إلى خفض قيمة الجنيه المصري مجددا، وأكد على ضرورة رفع سعر الفائدة، وإلا تعرضت العملة المصرية لخسائر كبيرة.
لكن كل هذه الاعتبارات وغيرها لا تبرر تعويم الجنيه المصري في الوقت الحالي، فلا توجد سوق سوداء نشطة للعملة، ولم يسجل الجنيه تراجعا ملحوظا مقابل الدولار منذ شهور طويلة حتى في ذروة تداعيات جائحة كورونا.

والبنك المركزي لديه من الاحتياطات الكافية من النقد الأجنبي لإجهاض أي محاولة لإعادة السوق السوداء للعملة، حيث أن رقم الاحتياطي تجاوز 40 مليار دولار  في نهاية شهر يناير الماضي.

كما أن البنك المركزي لن يمانع في العودة لسياسة رفع سعر الفائدة على الجنيه للمحافظة على الأموال الساخنة التي لعبت دورا في استقرار سوق الصرف في فترات سابقة، وقد فعلها أكثر من مرة من قبل.
لا أحد ينكر أن سعر الجنيه المصري متضخم ومبالغ فيه، وارتفاعه مقابل الدولار يثير علامات استفهام خاصة في الأوقات التي تشهد فيها البلاد تراجعا ملحوظا في النقد الأجنبي، وقد لا يعبر السعر عن قيمته الحقيقية، خاصة مع ارتفاعه اللافت في الوقت الذي كانت تتهاوى فيه عملات الدول الناشئة. 

الجائحة أدت إلى تهاوي إيرادات قطاع السياحة من أكثر من 13.1 مليار دولار في 2019، إلى 4 مليارات دولار في 2020. كما أثرت سلبا على إيرادات قناة السويس والاستثمارات الخارجية والصادرات

ولا أحد ينكر مدى تأثر الاقتصاد المصري الشديد بجائحة كورونا، خاصة وأن الجائحة أدت إلى تهاوي إيرادات قطاع السياحة من أكثر من 13.1 مليار دولار في عام 2019، إلى 4 مليارات دولار خلال العام الماضي. كما أثرت سلبا على إيرادات قناة السويس والاستثمارات الخارجية والصادرات.
لكن في المقابل فإن الأرقام الحديثة تشير إلى حدوث تحسن لافت في إيرادات مصر من تحويلات المصريين العاملين بالخارج المغتربين، التي ارتفعت خلال 2020 ‏‏‏ما يعادل 10.5%‏ وبما يعادل 2.8 مليار دولار لتسجل نحو 29.6 مليار دولار، مقابل نحو 26.8 مليار دولار خلال عام 2019.
هذه السيولة الضخمة من التحويلات عوضت إلى حد ما تهاوي الإيرادات الدولارية من الأنشطة الأخرى خاصة قطاعي السياحة والاستثمارات الأجنبية. 

كما أن التوسع في القروض الخارجية وفر سيولة كافية للبنك المركزي لكبح أي مضاربات محتملة في سوق الصرف. ويكفي هنا الإشارة إلى أن الأرقام تشير إلى زيادة الدين الخارجي المصري بنسبة تقترب من 40% خلال عامين، وأن دين مصر الخارجي تجاوز 125 مليار دولار بنهاية شهر سبتمبر 2020، وهو أخر رقم معلن من قبل البنك المركزي. 
أضِف إلى ذلك تراجع قيمة واردات البلاد من الخارج بنسبة 8.8% في عام 2020 ليصبح الرقم أقل من 70 مليار دولار، وهو ما وفر سيولة للأسواق والبنوك، وخفف الضغط على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي. 

كل هذه الأمور رحّلت مشكلة الجنيه المصري إلى المستقبل، وبالتالي فإن الكرة باتت الآن في يد الحكومة، إما أن تعوض تراجع الإيرادات الدولارية من بعض الأنشطة خاصة من موارد ذاتية كالصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية، أو أن تتعرض العملة المصرية لمزيد من الضغوط، خاصة مع زيادة كلفة الاقتراض من الخارج، وأعباء الدين الخارجي، وحجم الفجوات في الميزان التجاري والحساب الجاري.

المساهمون