تصحيح المالية العامة اللبنانية لم يبدأ بعد

09 أكتوبر 2023
تصحيح الماليّة العامّة يفرض وجود خريطة طريق واضحة وواقعيّة (محمود الزيات/ فرانس برس)
+ الخط -

يوم الخميس الماضي، تبلّغ رئيس مجلس النوّاب اللبناني، نبيه بري، قرار لجنة المال والموازنة النيابيّة برد مشروع قانون موازنة 2023، نظرًا لوروده خارج المهلة الدستوريّة، وقبيل الربع الأخير من السنة الماليّة 2023.

بمعنى أوضح، لم ترَ اللجنة ما يستوجب إجازة الإنفاق والجباية خلال العام الحالي، بعد أن أنفقت وجَبَت الحكومة بالفعل على مرّ الأشهر التسعة الماضية. اللجنة وجدت، وعن وجه حق طبعًا، أنّ غاية الموازنة الفعليّة يفترض أن تكون التخطيط المالي المسبق، لا تشريع الأمر الواقع المالي بعد حصوله، كما تطلب الحكومة في مشروع قانون موازنة.

هكذا، سيمضي عام 2023 من دون موازنة عامّة في لبنان، بعدما قامت الحكومة -منذ بداية السنة- بالعمل وفق قاعدة الاثني عشريّة، التي تقوم على تحديد سقوف الإنفاق الشهريّة وفق معدّلات موازنة العام الماضي. وكما هو معلوم، سيمثّل تطبيع هذه الممارسة اليوم مخالفة لشروط الاتفاق على مستوى الموظفين بين لبنان وصندوق النقد الدولي، الذي نصّ منذ نيسان/إبريل 2022 على إقرار موازنة تفتح المجال أمام تصحيح وضعيّة الماليّة العامّة.

يومها، وبعد توقيع هذا الاتفاق المبدئي مع الصندوق، تأخّر إقرار موازنة العام الماضي 2022 في المجلس النيابي لغاية أواخر شهر أيلول/سبتمبر من ذلك العام، ما جعلها غير ذات جدوى على مستوى التخطيط المسبق للإنفاق والجباية لتلك السنة. كذلك لم تشمل الموازنة أبسط الإجراءات الإصلاحيّة المأمولة منها، مثل تقديم تقديرات واقعيّة للجباية الضريبيّة، أو اعتماد سعر صرف واقعي وموحّد لهذه الجباية.

لهذا السبب، طلب الصندوق غضّ النظر عن موازنة عام 2022، والعمل على موازنة إصلاحيّة للعام الحالي 2023، كأساس لمسار تصحيح الماليّة العامّة. لكن هذه المرّة، لم يُبدأ بدراسة مشروع قانون الموازنة في المجلس النيابي منذ الأساس، بفعل تأخّر الحكومة في تحضير الموازنة وإرسالها إلى البرلمان. وبهذا الشكل، ظلّ تنفيذ شرط تصحيح الماليّة العامّة وإعادة التوازن عليها، المنصوص عليه في التفاهم المبدئي مع الصندوق، معلّقاً حتّى هذه اللحظة.

إطاحة موازنة العام الحالي، تقودنا تلقائياً إلى السؤال عن موازنة العام المقبل 2024، ومدى قدرتها على تحقيق التصحيح المنشود في الماليّة العامّة للدولة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ مجلس الوزراء قد أقرّ بالفعل هذه الموزانة خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، فيما يفترض أن تبدأ لجنة المال والموازنة النيابيّة بدراسة هذه الموازنة خلال الأيّام المقبلة، بعد تلقّيها مرسوم مشروع القانون من مجلس الوزراء.

رئيس الحكومة اللبنانيّة نجيب ميقاتي اعتبر خطوة إقرار موازنة 2024 إنجازاً كبيراً وبطولة، لكونها ببساطة الموازنة الأولى التي يقرّها مجلس الوزراء في موعدها الدستوري منذ عام 2002. ولفهم المقصود في كلام رئيس الحكومة، تكفي الإشارة إلى أنّ لبنان عاش أكثر من عقدين من الزمن من دون موازنات فعليّة، أو بموازنات متأخرة جداً كحال موازنة عام 2022، التي أُقرَّت قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة نفسها، ما جعلها مجرّد موازنة صوريّة.

ومع ذلك، من الضروري القول إنّ مجرّد إقرار موازنة عام 2024 في مجلس الوزراء في موعدها الدستوري، لا يمثّل إنجازاً بالفعل، ولا يبشّر عملياً بالوصول إلى مرحلة التصحيح في الماليّة العامّة. فتصحيح الماليّة العامّة يفرض وجود خريطة طريق واضحة وواقعيّة، تؤمّن عودة الانتظام والتوازن في ميزانيّة الدولة، وتنهي حالة الشلل التي أصابت الإدارات العامّة خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو ما لا تؤمّنه الصيغة المطروحة حاليّاً لموازنة 2024، كما أُقرَّت في مجلس الوزراء.

إشكاليّة هذه الموازنة تكمن في حجم العجز المقدّر فيها، والبالغ نحو 458 مليون دولار، أي ما يوازي 13.8% من حجم الموازنة نفسها. وكما هو معلوم، لم تعد الدولة تملك ترف الاقتراض من الأسواق الدوليّة أو المحليّة، بعد تخلّفها عن سداد سنداتها. وأعلنت القيادة الجديدة لمصرف لبنان، بعد رحيل الحاكم السابق رياض سلامة، رفضها الحازم لفكرة إقراض أو تمويل الدولة، بالدولار أو بالعملة المحليّة. فبالنسبة إلى مصرف لبنان، سيمثّل إقراض القطاع العام بالدولار استنزافاً إضافياً لما بقي من احتياطات، كما سيمثّل خلق النقد لإقراض الدولة بالليرة اللبنانيّة ضغطاً إضافياً على قيمة العملة المحليّة.

بهذا المعنى، أقرّت الحكومة اللبنانيّة موازنة غير واقعيّة، بغياب أي تصوّر لكيفيّة تمويل العجز المقدّر فيها خلال العام المقبل. وهذه الثغرة لن تطعن فقط بجديّة أرقام الموازنة، بل ستمثّل عقبة أمام إقرار الموازنة نفسها كقانون في مجلس النوّاب، في ظل رفض الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة مبدأ إكراه المصرف المركزي على تبديد احتياطاته، بنصوص تشريعيّة صادرة عن المجلس النيابي. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ مسألة تبديد الاحتياطات تتصل بملف حسّاس وشائك شعبياً، لكون هذه الاحتياطات تمثّل آخر ما بقي من أموال المودعين التي أودعتها المصارف لدى المصرف المركزي.

الإشكاليّة الأخرى في صيغة الموازنة المطروحة، تكمن في تركّز أكثر من 94.8% من النفقات المقدّرة فيها في أبواب النفقات التشغيليّة، في حين أنّ أبواب الإنفاق الاستثماري لم تحظَ بأكثر من 5.1% من إجمالي النفقات. وبهذا المعنى، ما زالت بنية الإنفاق العام بعيدة جداً عن التعامل مع أزمات ترهّل البنية التحتيّة وتدهور الخدمات العامّة، ومنها تلك التي تتصل بالخدمات البديهيّة مثل الطبابة الحكوميّة والكهرباء والمياه والصرف الصحّي. ومن الواضح أنّ هذا الواقع نتج أساساً من تدهور حجم الإيرادات العامّة، بفعل انخفاض سعر صرف العملة المحليّة، ما ركّز الإنفاق على الحاجات التشغيليّة الملحّة فقط.

أمّا الإشكاليّة الأكبر، فكانت تركّز 33.7% من نفقات الموازنة، أي أكثر من ثلثها، في بند "الاحتياطي"، أي لنفقات تشغيليّة غير محددة مسبقاً، ما يعطي الحكومة هامشاً في تحديد وجهة استعمال هذه الأموال في المستقبل. وهذه الخطوة، تمثّل ثغرة كبيرة، لكونها تعكس ضعفاً في تخطيط الموازنة وشفافية أرقامها، وتراجعاً في قدرة المشرّعين على ضبط الإنفاق العام ووجهة استخدامه.

أمّا الأهم، فهو أنّ الموازنة لم تستهدف الدخول في مسار تصحيح رواتب العاملين في القطاع العام، بعدما فقدت رواتب هؤلاء قيمتها الفعليّة بتراجع سعر صرف العملة المحليّة. وحتّى هذه اللحظة، اقتصرت المعالجات المتاحة على بعض المساعدات الاجتماعيّة المؤقتة، من دون تصحيح أصل الراتب، وهو ما طبّع ظاهرة شلل وإقفال المؤسسات الرسميّة. ومرّة جديدة، كانت هذه المشكلة تنتج من ضمور حجم الإيرادات المتاحة، التي لا تسمح بتصحيح شامل في أجور هذه الفئة الاجتماعيّة.

من الناحية العمليّة، كان المأمول من هذه الموازنة أن تصحّح حجم الإيرادات العامّة، من خلال إجراءات تستهدف مكافحة التهرّب الضريبي، وضبط الاقتصاد النقدي الخارج عن رقابة وسيطرة السلطة الضريبيّة. كذلك كان من المفترض أن تسعى الحكومة لإجراءات تركّز على زيادة إيرادات الضرائب المباشرة، القادرة على تعويض تراجع الإيرادات بفعل تدهور سعر صرف الليرة، ومن دون زيادة الأعباء على الفئات الأفقر في المجتمع.

وهذا ما كان سيسمح بالتعامل مع أزمات البنية التحتيّة وتراجع قيمة أجور موظفي القطاع العام، بدل التغاضي كلياً عن التعامل مع هذه الأزمات.

وفي خلاصة الأمر، تبقى المشكلة الأهم حالياً الشغور الرئاسي، ورفض العديد من الكتل النيابيّة مبدأ التشريع قبل انتخاب رئيس جمهوريّة جديد. وهذه الأزمة، قد تعيق إقرار مشروع قانون الموازنة، بعد دراسته ومناقشته، قبل نهاية العام الحالي، وهو ما سيحول دون اعتماد موازنة العام المقبل قبل بدء السنة.

المساهمون