بدأت ترتفع مؤشرات "سيناريو" إصدار السلطات القضائية في لبنان مذكرة توقيف غيابية بحق حاكم البنك المركزي السابق رياض سلامة، ولا سيما في ظلّ عدم استطاعة الأجهزة الأمنية حتى اللحظة تبليغه موعد جلسته أمام الهيئة الاتهامية في 29 أغسطس/آب الجاري، علماً أنه لا يزال متوارياً عن الأنظار، وسط خشية من احتمال تهريبه من الأراضي اللبنانية.
يأتي هذا الترجيح، في وقتٍ لم يمثل فيه سلامة أمام الهيئة الاتهامية في 9 أغسطس، لتعذّر تبليغه أيضاً، في ظلّ عدم العثور عليه في أيٍ من العناوين المُصرَّح عنها قانوناً، ما سيدفع إلى تبليغه لصقاً، وبالتالي، سلك طرق التبليغ وفق كل الأصول اللازمة، الأمر الذي يتيح للهيئة الاتهامية في حال ارتأت ذلك، إصدار مذكرة توقيف غيابية بحقه، في حال لم يحضر الجلسة.
وسُجِّل آخر ظهور لحاكم البنك المركزي السابق، لدى مغادرته مقرّ مصرف لبنان، عقب انتهاء ولايته في 31 يوليو/تموز الماضي، وتسلّم نائبه الأول، وسيم منصوري، صلاحياته بالإنابة، في حين بدأت تخرج أنباء عن احتمال مغادرته الأراضي اللبنانية، علماً أن سلامة لا يمكنه ترك لبنان بطريقة شرعية، باعتبار أن جوازي سفره الفرنسي واللبناني مصادران، وهو مطلوبٌ دولياً.
كما أن سلامة هو محورُ تحقيقات قضائية في لبنان والولايات المتحدة الأميركية وأكثر من ثماني دول أوروبية، تحقق جميعها في مزاعم جرائم مالية ارتكبها خلال ولايته التي استمرت نحو 30 عاماً، وقد أدرج حديثاً على لائحة العقوبات الأميركية، الكندية والبريطانية.
وكانت رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة إسكندر، استأنفت قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل أبو سمرا القاضي بترك سلامة، وطلبت من الهيئة الاتهامية في بيروت توقيفه، وسط شكوك حول طريقة تعاطي أبو سمرا مع ملف سلامة.
جرائم متعددة
وخضع سلامة للاستجواب أمام القاضي أبو سمرا، بملف الادعاء اللبناني، بجرائم الرشوة والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والاثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي، وتركه رهن التحقيقات من دون أن يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه، بينما اكتفى بحجز جوازي سفره، اللبناني والفرنسي، وأصدر قراراً بمنعه من السفر، علماً أن معلومات كثيرة تحدثت عن ضمانات أعطيت وقتها لسلامة بعدم توقيفه في حال حضر، وهي ضمانات لم يحصل عليها حالياً، للمثول أمام الهيئة، ما يعزز سيناريو تغيّبه، مخافة من توقيفه وجاهياً.
وباتت الطبقة السياسية في لبنان مُحرجة أمام الرأي العام وعاجزة عن حماية سلامة عقب العقوبات الأخيرة الصادرة ضده، والفضائح التي ظهرت بشأن ممارساته، في تقرير أولي، للتدقيق الجنائي، علماً أن صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، ذكرت قبل أيام، أن سلامة، أرسل فلاش ميموري للخارج فيها أسرار كثيرة عن عمله في حالة حدوث شيء سيئ له، هو المعروف، بأنه حامي وحافظ أسرار الطبقة السياسية في لبنان.
وفي سياق التطورات أيضاً في ملف سلامة القضائي، فقد طلب النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، فتح تحقيقات موسّعة بما تضمّنه تقرير التدقيق الجنائي التمهيدي المقدَّم من شركة "ألفاريز أند مارسال"، لتبيان من ساهم وشارك واستفاد من المخالفات الجسيمة الواردة فيه، واحالتهم إلى القضاء المختصّ، وبنتيجة الإخبار الذي ورده من وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري، بهذا الشأن.
وأجرى عويدات مطالعة مفصّلة تتعلق بالتقرير الجنائي التمهيدي أمس الثلاثاء طلب احالتها إلى كلّ من النيابة العامة المالية والنيابة العامة الاستئنافية في بيروت وهيئة التحقيق الخاصة للاطلاع واجراء التحقيقات اللازمة كلّ ضمن اختصاصه وصلاحياته واتخاذ ما يرونه مناسباً.
وتوقف عويدات عند حساب العمولات لدى مصرف لبنان الذي يظهر فيه تحويل مبلغ 111.3 مليون دولار إلى حسابات مصرفية مفتوحة لدى ستّة بنوك وحساب مصرفي سويسري، وقد تم تغذية هذا الحساب من العمولات على الهندسات المالية، وهو الملف، العالق أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة، المتعلق بحاكم البنك المركزي رياض سلامة، وشركة "فوري" الوهمية التي يملكها شقيقه، رجا.
وطلب النائب العام التمييزي، التوسع بالتحقيقات بهذا الملف لتشمل هوية الأشخاص أو المؤسسات الذين استفادوا من هذه التقديمات والأسباب الكامنة وراءها ومدى ارتباطها بشركة "فوري"، وشركة "أوبتيموم"، أو بالحسابات المرتبطة بها وتحديد المعايير المعتمدة.
تحقيقات إضافية
وبالعودة إلى ما تضمنه التقرير التمهيدي ولا سيما الجداول المدرجة فيه يتبين احتمال اجراء تحقيقات إضافية من شأنها التأثير على النتائج وذلك في حال الاستحصال على معطيات إضافية أو حصول مستجدات بينها توسع في التحقيقات. يقول عويدات.
وتناول التقرير دراسات عدّة شملت المواضيع التالية، الاحتياطات بالعملة الأجنبية، التزوير في ميزانيات مصرف لبنان، الهندسات المالية، حساب العمولات، حسابات حاكم مصرف لبنان، كلفة تشغيل مصرف لبنان، كلفة العلاوات، المكافآت والمساعدات المرضية، غياب مفوض الحكومة، كيفية استعمال احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بين العام 2010 ولغاية العام 2020.
ومن أبرز ما جاء في الجداول، على صعيد الاحتياطات بالعملة الأجنبية، فقد انتقلت من 7.2 مليارات دولار إلى ناقص 5.7 مليارات دولار، أما في حساب العمولات، فقد تم تحويل مبلغ 111.3 مليون دولار من حساب العمولات لدى مصرف لبنان إلى حسابات مصرفية مفتوحة لدى ستّة بنوك وحساب مصرفي سويسري وقد تم تغذية هذا الحساب من العمولات على الهندسات المالية.
في ما خصّ التزوير في ميزانيات مصرف لبنان، لم يتم إيراد الخسارة التي لحقت بالاحتياطات في ميزانيات البنك المركزي بل تم إيراد الخسارة في ميزانية الدولة للعام 2020 بمبلغ 51.3 مليار دولار.
على صعيد حسابات حاكم مصرف لبنان، بين العام 2015 و2020، فقد حوّل سلامة، مبلغ 98.8 مليون دولار من حساباته لدى مصرف لبنان إلى حسابات في كلّ من سويسرا وألمانيا وفرنسا واللوكسمبورغ والمملكة المتحدة وداخل البلاد بمعدّل 16.5 مليون دولار سنوياً.
ومن أبرز استعمالات احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بين العام 2010 و2021، فقد استخدم على ديون كهرباء لبنان 18 مليار دولار، تحويلات كهرباء لبنان 543 مليون دولار، وزارة الطاقة 6 مليارات دولار، ديون القطاع العام 235 مليون دولار، تحويلات لزوم القطاع العام 8 مليارات دولار، تمويل الدعم 7 مليارات دولار، كلفة حركة اليوروبوند 7 مليارات دولار، مدفوعات مصرف لبنان 470 مليون دولار.
وضمن ما جاء في مطالعة القاضي عويدات، أن "الشركة لم تتمكن من التحقيق في الموضوع ككل وإلى أقصى حدٍّ مرجو، كون ذلك الأمر يتطلب مستوى أكبر من التعاون من قبل مصرف لبنان واستجابة لطلبات الحصول على المعلومات والتمكن من استخراج بيانات النظام كاملة"، كما واعتباره التقرير "غير كاف وغير شامل"، علماً أن الشركة واجهت في عملها الكثير من العراقيل والعوائق خصوصاً في حصولها على البيانات التي كانت تطلبها.
استعراض قضائي
في هذا السياق، يقول المحامي نجيب فرحات، لـ"العربي الجديد"، إن مطالعة القاضي عويدات لزوم ما لا يلزم، وهي تأتي كنوع من الاستعراض، وحتى في مضمونها تقليل من أهمية التدقيق الجنائي.
ويستغرب فرحات كيف أن عويدات أحال الملف فقط على النيابة العامة المالية والنيابة العامة الاستئنافية في بيروت، ولم يحلها إلى نيابات أخرى، منها مثلا جبل لبنان، التي سبق أن أصدرت قرارات بحق سلامة، ولم تُنفَّذ، وهو رفض المثول أمامها سابقاً.
كذلك، يتوقف فرحات عند نقطة بغاية الأهمية والكلّ يتغاضى عنها حتى اللحظة ويجب حسمها سريعاً، تتمثل في أن التقرير لا يزال باللغة الأجنبية، في وقت يفترض فيه تكليف لجنة مترجمين لترجمته، والتذرع به أمام المحاكم، واقفال الباب أمام استثماره من كل طرف بالطريقة التي يجدها مناسبة.
من ناحية ثانية، في الجلسة المنتظرة بحق سلامة أواخر الشهر الجاري، يقول فرحات، القانون واضح جداً، وينصّ على أنه إذا ثبت أن سلامة متوار عن الأنظار، وتعذر تبليغه أصولاً، يبلغ لصقاً، وفي هذه الحالة، يمكن اصدار مذكرة توقيف غيابية بحقه، عند عدم حضوره، وهو ما يجب أن يحصل، وإلا فإن أي مسار آخر يُسَلك سيكون مريباً جداً.
ويرى فرحات، أن الغطاء السياسي يبدو أنه رفع عن سلامة وهذا أمر طبيعي، خصوصاً بعد العقوبات الأميركية وبعدما خرج من موقع السلطة، وقد يُترجم ذلك بتوقيفه، أما أسرار السلطة التي بحوزته، فهناك علامات استفهام حول السبب وراء عدم فضحه لها حتى الساعة بعد كلّ ما حصل، ولو أراد أن يفضح الطبقة السياسية لفعل، ولكننا سننتظر بكل الأحوال كل التطورات بشأن سلامة والمنظومة.
ويلفت فرحات إلى أن سلامة مثل فقط أمام القضاة الذين اعطوه ضمانات بحمايته وعدم توقيفه، لكنه رفض المثول أمام قضاة آخرين، وهو بالتالي، يعتمد هذا الأسلوب، من هنا لن يمثل أمام الهيئة إذا لم يُعطَ ضمانات بعدم توقيفه وجاهياً.
أما حول الأنباء التي تتحدث عن مغادرة سلامة الأراضي اللبنانية، فيشك فرحات في هذا السيناريو، باعتبار أن هناك مذكرة انتربول صادرة بحقه، ومذكرات توقيف دولية أخرى، وتالياً، هو مطلوبٌ دولياً، كما أنه محور ملاحقات في لبنان، وجوازا سفره مصادران، ولكن لا يمكن استبعاد احتمال تهريبه بشكل تام، فهذا يبقى وارداً.