يبدو أن أزمات الأرجنتين لن تقف عند حد تفاقم المشاكل الاقتصادية العنيفة، والأحوال المعيشية المتردية منذ سنوات، وانهيار العملة، أو عند معدلات تضخم جامحة هي العليا في العالم، وضخامة الديون الخارجية التي تتجاوز 150 مليار دولار، ومعدلات الفقر والبطالة القياسية وغير المسبوقة، وتدني الأجور وتآكل المدخرات.
بل أضيفت إلى تلك المشاكل وغيرها مشكلة أخرى هي اختيار رئيس جديد للدولة هو الليبرالي اليميني المتطرف خافيير ميلي، المشهور بـ"المجنون"، والذي فاز في انتخابات نافسه فيها وزير الاقتصاد الحالي سرخيو ماسا الحاصل على 44% من إجمالي عدد أصوات الناخبين مقابل 56% لخصمه ميلي.
مبعث هذا القلق لدى شريحة من الأرجنتينيين هو ما تعهد به ميلي الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي والمصرفي السابق، البالغ من العمر 53 عاما، والذي يصف نفسه بأنه "رأسمالي فوضوي".
فمنذ أن قرر اقتحام المعترك السياسي قبل عامين يثير الجدل حول أفكاره، ويشبهه بعضهم بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في شعبويته وقدراته الاستعراضية.
طرح ميلي أفكاراً "مجنونة" منها إغلاق البنك المركزي، والتخلص من العملة المحلية (البيزو) التي تتهاوى يوماً بعد يوم، و"دولرة" الاقتصاد
فقد تعهد ميلي بالتوصل إلى حل للأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ سنوات طويلة عبر أدوات غير تقليدية لم تطرحها دولة ذات شأن اقتصادي وسياسي من قبل.
وطرح أفكاراً "مجنونة" في هذا الشأن منها إغلاق البنك المركزي الأرجنتيني الذي حمله مسؤولية انهيار الاقتصاد والعملة وتفاقم الدين الخارجي، وتعهد بالتخلص من العملة المحلية (البيزو) التي تتهاوى يوماً بعد يوم، و"دولرة" الاقتصاد، أي التعامل بالدولار في كل الأنشطة الاقتصادية والأسواق والقطاع المصرفي، وإلغاء وزارات حيوية مثل التعليم والصحة والبيئة.
كما وعد الرئيس الجديد بخفض الإنفاق العام الحكومي، والتخلص من "الطبقة الطفيلية" و"تقليم الدولة المعادية"، والسماح بحمل السلاح.
كما انتقد اثنين من أكبر شركاء الأرجنتين الاقتصاديين، وهما الصين والبرازيل، قائلا إنه لن يتعامل مع "الشيوعيين والاشتراكيين"، وإنه يفضل في المقابل تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل والتي رفع علمها عقب فوزه في الانتخابات.
هذه الأفكار لاقت استحسان شريحة كبيرة من الناخبين، رغم صعوبة تطبيقها على أرض الواقع، وربما استحالة تطبيقها.
الرئيس المنتخب استفاد من الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد منذ سنوات، واستغل حنق رجل الشارع على الحكومات والأنظمة السابقة
فلا يوجد دولة تعيش بلا بنك مركزي يصدر العملة الوطنية، ويدير الاحتياطي النقدي والدين العام، ويراقب القطاع المصرفي والمالي، وإلغاء العملة الوطنية، البيزو، يعني انهيار الاقتصاد تماماً وجفاف موارد النقد الأجنبي، وتهاوي الاحتياطي النقدي، والدولرة تهدد اقتصاد أي دولة بتضخم جامح وهروب للأموال.
رئيس الأرجنتين المنتخب استفاد من الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد منذ سنوات، واستغل حنق رجل الشارع على الحكومات والأنظمة السابقة التي قادت البلاد نحو انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، والخضوع لأجندة وشروط وابتزاز صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من الدائنين الذين أدوا دورا مرسوما في إغراق الأرجنتين في مستنقع الديون وانهيار العملة وتآكل المدخرات.
كما استغل ميلي فشل الأنظمة السابقة التي أدت دورا في تحويل الأرجنتين، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، إلى أكبر مدين لصندوق النقد الدولي، وتحويل الدولة العضو في مجموعة العشرين، صاحبة أكبر اقتصادات في العالم، إلى دولة متسولة مدينة تخضع لشروط وإملاءات المؤسسات المالية الدولية.
وبسبب تردي الوضع الاقتصادي عمل ميلي خلال حملته الرئاسية على "شيطنة" ممنهجة لحكومة فرنانديز ونائبته كريستينا كيرشنر، كما وعد رجل الشارع بوعود هي أقرب إلى الأحلام.
لكن الواقع مؤلم، فمعدل التضخم في الأرجنتين هو من أعلى المعدلات في العالم حيث تجاوز 143% خلال عام، والفقر يصيب أكثر من 40% من السكان رغم برامج الرعاية الاجتماعية، وإدارة ملف الديون المزمن يستعصي على الحل.
استغل ميلي فشل الأنظمة السابقة التي أدت دورا في تحويل الأرجنتين، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، إلى أكبر مدين لصندوق النقد
وهناك ضغوط شديدة من صندوق النقد على الأرجنتين بتعويم البيزو مرات جديدة، مقابل الإفراج عن شريحة جديدة من قرض جديد بقيمة 44 مليار دولار، وهو ما يعني تراجع قيمة العملة وحدوث موجات تضخم جديدة ووقوع مزيد من الفقراء في دائرة العوز.
وسط هذا المشهد الاقتصادي والسياسي المعقد، من المتوقع أن تعيش الأرجنتين فترة تقلبات واضطرابات جديدة، مع الأجندة التي يطرحها الرئيس المنتخب، فميلي ينظر إلى إسرائيل والولايات المتحدة على أنهما المثل الأعلى له، وأهم شريكين لبلاده، وتربطه علاقة خاصة بدولة الاحتلال والدين اليهودي.
ووصلت به الحالة إلى القول، إن الله سبحانه وتعالى "كلّمه" مرّة واحدة، وأوحى إليه مرّات عدة بنظريات "الإصلاح الاقتصادي للأرجنتين"، عن طريق رسائل نقلها إليه كلبه الشهير "كونان"، النافق عام 2017، حين أتاه في المنام، وهي الكلمات التي باتت محل تندّر بعض الأرجنتينيين وإعجاب لدى آخرين وصل إلى حد الانبهار.
وذكّرت بعضهم بما كان يفعله ترامب وقت توليه منصبه الرئاسي حينما كان يحيط نفسه برجال الدين الإنجيليين ويتحدث دوما مع الدجالين والمشعوذين "مستشاريه الروحيين" ليستشيرهم في أمور سياسية بالغة التعقيد.