منذ 9 يناير/كانون الثاني الحالي، بدأت مجموعات من القضاة والمحققين والكتبة الأوروبيين بالتوافد إلى العاصمة بيروت على مراحل، لاستكمال التحقيقات في شبهات تبييض الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع، التي تدور حول حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وشقيقه وشركائه. ومن المفترض أن تمثّل هذه الوفود الأجهزة القضائيّة في ثلاث دول تحقق في أنشطة سلامة الماليّة، وهي فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، على أن يسعى هؤلاء إلى استجواب لائحة طويلة من الشهود، بما يشمل مسؤولين ماليين ومصرفيين ومفوّضي رقابة ومحاسبة.
بمجرّد بدء الزيارة القضائيّة، لجأت بعض النخب السياسيّة في لبنان، التي لطالما وفّرت الحماية لحاكم المصرف المركزي، إلى التحذير من هذه المستجدات، عبر الحديث عن إمكانيّة انطوائها على اختراق للسيادة الوطنيّة. كما ذهب بعض الممتعضين إلى وصف ما يجري بالوصاية القضائيّة الخارجيّة على لبنان، وبالتدخّل في شؤونه النقديّة والماليّة. ولشحن النفوس ضد الوفود القضائيّة الأوروبيّة، كان هؤلاء يعتبرون أن ما يجري سابقة، يمكن أن تمهّد لتكرار السيناريو نفسه في ملفّات قضائيّة أخرى عالقة، كملف انفجار مرفأ بيروت على سبيل المثال.
من المهم الإشارة أولًا إلى أنّ شبهات الاختلاس والإثراء غير المشروع، التي تدور حول رياض سلامة، ترتبط بشكل أساسي بأموال عامّة لبنانيّة، وبعقود وصفقات وقعها سلامة في بيروت بصفته حاكمًا للمصرف المركزي. ولهذا السبب بالتحديد، كان من المفترض، من حيث المبدأ، أن تخضع هذه القضايا لولاية واختصاص المحاكم اللبنانيّة فقط، لا المحاكم الأوروبيّة. بل وكان من المفترض أن تسعى المحاكم اللبنانيّة إلى الحجز على الأموال والممتلكات المشتبه بمصدرها، بدل أن تُحتجز هذه الأصول في أوروبا لمصلحة السلطات الأجنبيّة، كما هو الحال اليوم.
لكن من الناحية العمليّة، من المعلوم أن الأموال المشتبه بمصدرها، والتي ارتبطت بهذه الصفقات في بيروت، جرى تحويلها لاحقًا إلى دول أوروبيّة عديدة، من خلال شبكة معقدة جدًا من الحسابات المصرفيّة والشركات الواجهة. وعلى هذا الأساس، تشتبه السلطات القضائيّة في الدول الأوروبيّة الثلاث بارتكاب سلامة وشركائه جرائم غسل الأموال، داخل المصارف والأسواق العقاريّة الأوروبيّة، بهدف إخفاء المصدر الأساسي للأموال المشتبه باختلاسها.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ غسل الأموال يُعد قضائيًّا جُرما قائما بحد ذاته، منفصلا عن الجريمة التي أدّت إلى الحصول على الأموال غير المشروعة.
بهذا المعنى، باتت الأنشطة الماليّة المشبوهة، التي تدور حولها التحقيقات، من ضمن ولاية واختصاص المحاكم الأوروبيّة، طالما أن جزءا أساسيا من سلسلة الجرائم الماليّة، أي تبييض الأموال، جرى ضمن نطاق هذه الدول الثلاث. وهذا تحديدًا ما يفسّر فتح التحقيقات هناك، وحجز أموال وممتلكات سلامة وشركائه بعد العثور على أدلّة دسمة في هذا الملف.
بل وبحسب المادّة 42 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، باتت حتّى جرائم الاختلاس والإثراء غير المشروع المشتبه بحصولها في بيروت، تندرج ضمن ولاية واختصاص المحاكم الأوروبيّة، لكونها جرائم مهدت أو هدفت لحصول جرم تبييض الأموال ضمن نطاق الدول الأوروبيّة. مع العلم أن ذلك لا ينفي بقاء كل هذه الجرائم من ولاية واختصاص القضاء اللبناني في الوقت نفسه.
لكل هذه الأسباب، وبخلاف ما سوّقته النخب السياسيّة في لبنان، لم تتخطَّ السلطات القضائيّة الأوروبيّة نطاق اختصاصها ولا ولايتها. كما لم تتخطَّ حدود القانون اللبناني، الذي يسمح للسلطات القضائيّة الأجنبيّة بتقديم طلبات للنائب العام التمييزي في لبنان، لاستجواب شهود أو مشتبه بهم ضمن الأراضي اللبنانيّة، في جلسات يديرها قضاة لبنانيّون ويحضرها القضاة الأجانب. وهذا تحديدًا ما جرى مع بدء الجولة القضائيّة الراهنة، حيث بدأت النيابة العامّة التمييزيّة اللبنانيّة بجدولة وتنسيق جلسات الاستجواب، بعد أخذ موافقة النائب العام التمييزي على الطلب الأوروبي.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن ما جرى لم يكن سابقة جديدة، إذ لطالما استندت السلطات القضائيّة الأجنبيّة إلى معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، لطلب جلسات استجواب على الأرضي اللبنانيّة في قضايا مختلفة، وكان ذلك يتكرّر مرّات عديدة خلال كل سنة. مع الإشارة إلى أنّ هذه المعاهدة، التي صادق عليها المجلس النيابي اللبناني عام 2008، تتقدّم في مفاعيلها وموجباتها على القوانين المحليّة التي تتعارض معها. وعلى سبيل المثال، تم استجواب رجل الأعمال كارلوس غصن خلال العام الماضي في محاكم العاصمة بيروت، وبحضور وفد قضائي فرنسي، بناءً على طلب فرنسي استند على مفاعيل هذه المعاهدة، دون أن يتم اعتبار ذلك استباحة للسيادة اللبنانيّة.
وفي واقع الأمر، كان من الممكن أن تكتفي السلطات القضائيّة في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ بطلب المعلومات من القضاء اللبناني، عبر المراسلات وطلبات التعاون المعتادة، بدل أن تضطر إلى إجراء الاستجوابات في بيروت. وكان من الممكن أن تعتمد السلطات القضائيّة الأوروبيّة في هذه المراسلات على الاستجوابات والتحقيقات التي يجريها القضاء اللبناني في ملف سلامة، كما كان الحال سابقًا.
إلا أنّ تعطيل التحقيق في ملف سلامة الموجود بحوزة القضاء اللبناني منذ ستّة أشهر، بات يمنع القضاء من تبادل أي معلومات على هذه النحو، كما بات يمنعه من إجراء أي استجوابات جديدة.
على أي حال، وفي مقابل عدم وجود أي إشكاليّات قانونيّة أو سياديّة في ما يجري، يمكن أن تسهم هذه التحقيقات، بعد وصولها إلى مرحلة الادعاء لاحقًا، بالكشف عن المزيد من الحقائق المرتبطة بالتجاوزات التي جرت خلال المراحل السابقة، والتي يتصل الكثير منها بأسباب الانهيار القائم نفسه. فأبرز الشبهات التي تدور حول سلامة، ترتبط بالعمولات التي جنتها شركة مسجلة باسم شقيقه بشكل غير مشروع، من اكتتابات المصارف بسندات الدين السيادي وشهادات إيداع المصرف المركزي.
وهكذا، وبينما كان من المفترض أن يحد حاكم المصرف المركزي من انكشاف المصارف على التوظيفات في الدين السيادي والمصرف المركزي، لتقليص المخاطر المحيطة بأموال المودعين، كان الحاكم يستفيد ماليًّا من توسّع هذه التوظيفات، وارتفاع حجم المخاطر الناتجة عنها. وكما هو معلوم اليوم، ارتبطت الكتلة الأساسيّة من الخسائر التي ألمّت بأموال المودعين لاحقًا بهذا النوع من التوظيفات بالذات.
أمّا المشكلة الفعليّة، والتي لا ترتبط بانتهاك السيادة الوطنيّة أو تجاوز القوانين المحليّة، فترتبط بتلكؤ القضاء اللبناني عن مواكبة هذه التحقيقات التي تجري في أوروبا، وعدم استكمال ملف التحقيق الموجود في محاكم بيروت، نتيجة الضغوط السياسيّة. ولهذا السبب، وبدل أن يسعى لبنان إلى الحجز على الأموال والممتلكات المشتبه بمصدرها، تمهيدًا لاستعادتها في حال ثبت أنّها أموال عامّة لبنانيّة منهوبة، ستبقى هذه الثروة محجوزة لمصلحة السلطات القضائيّة الأوروبيّة، ما يهدد بمصادرتها لمصلحة السلطات الأوروبيّة لا اللبنانيّة في المستقبل. وهذه الإشكاليّة نابعة بالتأكيد من تقصير القضاء اللبناني، لا تجاوز القضاء الأوروبي لصلاحيّاته.
أخيرًا، تبقى المعضلة الأهم في الوقت الراهن إصرار النخبة السياسيّة في لبنان على حماية حاكم المصرف المركزي، من خلال إبقائه في منصبه، مع كل ما يعطيه ذلك هذا المنصب من حصانات في وجه الملاحقات القضائيّة المحليّة، في المحاكم اللبنانيّة. وهذه المعضلة، ستستمر بتهديد مصداقيّة المصرف المركزي نفسه، وعلاقته بالمصارف المراسلة، خصوصًا في حال تحوّل حاكم المصرف إلى مدّعى عليه في المحاكم الأجنبيّة.