فضح تحقيق أوردت تفاصيله صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، اليوم الجمعة، ما سمّاها تجارة أوروبا السرية بـالفوسفات السوري، والتي تشكل وارداتها الخفية شريان حياة اقتصادياً لرئيس النظام السوري بشار الأسد وتمويلاً للأوليغارشية الروسية التي تستهدفها عقوبات الاتحاد الأوروبي.
قصة التحقيق تبدأ من يناير/ كانون الثاني 2022، عندما اختفت سفينة الشحن "سي نافيغايتور" التي ترفع علم هندوراس عن أنظمة التتبع الدولية قبالة سواحل قبرص، قبل أن تعود إلى الظهور بعد أسبوع، متجهة شمالاً إلى أوروبا. لكن السفينة لم تكن مفقودة، بل حوّلت مسارها إلى ميناء تسيطر عليه روسيا في سورية لتحميل الفوسفات الذي يُعد عنصراً رئيسياً لصناعة الأسمدة.
فقد ازدهرت صادرات الفوسفات السوري الرخيصة إلى أوروبا في السنوات الأخيرة، علماً أنّ أوروبا تمتلك القليل من احتياطياته، فيما كان المزارعون الأوروبيون يكافحون بالفعل لشراء الأسمدة الفوسفاتية، قبل أن ترفع الحرب الروسية في أوكرانيا الأسعار إلى الأعلى.
الملياردير الروسي غينادي تيمشينكو متورّط في تهريب الفوسفات السوري
لكن هذه التجارة السرية لها تكلفة، بحسب ما تشير الصحيفة، إذ توفر صادرات الفوسفات شريان الحياة الاقتصادي لحكومة الأسد وتوجه الأموال الأوروبية إلى الشريك الرئيسي لسورية في تجارة الفوسفات، وهو الملياردير الروسي غينادي تيمشينكو، الصديق المقرّب للرئيس فلاديمير بوتين.
وفي حين أنّ عقوبات الاتحاد الأوروبي على سورية لا تحظر صراحة واردات الفوسفات، إلا أنها تحظر الصفقات مع وزير النفط والموارد المعدنية السوري، المسؤول عن الفوسفات. كما أنّ الشركات الأوروبية، بهذه الحال، تخاطر بإفساد النفوذ العالمي للعقوبات الأميركية على النظام السوري، باعتبار أنّ تيمشينكو كان من أوائل الذين أضيفوا إلى عقوبات بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي.
ولذلك، توضح الصحيفة، تدفع الشركات الأوروبية لشبكة معقدة من الشركات الوهمية والوسطاء لشراء الفوسفات السوري، الذي يتم شحنه خلسة على متن سفن مثل "سي نافيغايتور".
وبحسب "ذا غارديان"، يكشف تحليل عشرات الرحلات المشابهة باستخدام بيانات تتبع السفن، عن نمط من البواخر التي تحمل الفوسفات من سورية قبل أن تختفي من نظام تتبع "إيه آي إس" AIS التابع لـ"المنظمة البحرية الدولية" أثناء توجهها نحو هذا البلد لتعاود الظهور وهي في طريقها إلى أوروبا بعد أسبوع أو اثنين. كما أنشأ موظفو تيمشينكو شركات واجهة في سورية لإرسال الفوسفات إلى أوروبا.
ويقول الخبير القانوني السوري إبراهيم العلبي، الذي يراقب تهرّب النظام السوري من العقوبات، للصحيفة، إنّ "تجارة الفوسفات السورية تُظهر سبب عدم ملاءمة نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي للهدف، فالتهرب من العقوبات فعال وليس بهذه الصعوبة"، مشيراً إلى أنّ روسيا تعلّمت كيفية القيام بذلك في سورية، ويمكنها الآن استخدام هذه التجربة لتجنب العقوبات المفروضة بسبب حرب أوكرانيا.
رحلة الفوسفات من المناجم السورية إلى المصانع الأوروبية
وتتبع تحقيق أجراه "مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد" OCCRP و"لايت هاوس ريبورتس" Lighthouse Reports و"مجلة التحقيقات الاستقصائية السورية للمساءلة" (سراج)، بالتعاون مع صحافيين في 7 دول، شحنات الفوسفات من مناجم الصحراء في سورية، إلى مصانع الأسمدة في أوروبا، باستخدام تحليل مفتوح المصادر ووثائق مالية وبيانات تجارية من عشرات الدول.
وتظهر السجلات التجارية الرسمية أنّ إسبانيا وبولندا وإيطاليا وبلغاريا بدأت أخيراً في استيراد الفوسفات السوري. كما أنّ صربيا وأوكرانيا اللتين تطبّقان أيضاً عقوبات الاتحاد الأوروبي على النظام في سورية كجزء من اتفاقياتهما مع التكتل، هما أيضاً من كبار المشترين.
إسبانيا وبولندا وإيطاليا وبلغاريا بدأت في استيراد الفوسفات السوري. كما أن صربيا وأوكرانيا اللتين تطبقان أيضاً عقوبات الاتحاد الأوروبي، هما أيضا من كبار المشترين
عند سؤالها عن الواردات، قالت الشركات والهيئات الحكومية إنها لم تنتهك العقوبات لأنّ الفوسفات السوري ليس محظوراً على وجه التحديد، وهي لا تتعامل مباشرة مع الأشخاص الخاضعين للعقوبات.
عن هذه النقطة بالتحديد، تقول ضابطة استخبارات سابقة في وزارة الخزانة الأميركية إيرين كينيون، للصحيفة: "قد تكون على حق من الناحية القانونية.. لكنك تقدم أيضاً ديّة لنظام خاضع للعقوبات ينتهك حقوق الإنسان وأوليغارشية روسية معاقبة".
شركات واجهة سورية تابعة للأوليغارشية الروسية
في الصحراء المحيطة بتدمر، المدينة القديمة التي دمرها عناصر تنظيم "داعش" وسط سورية، ينقل عمال بالحافلات من المدن المجاورة صخور الفوسفات من المناجم الترابية في سورية، وفق الصحيفة. ولا تزال قلة من السوريين تعيش في القرى المنتشرة في هذه المنطقة القاحلة، حيث تواصل الخلايا النائمة للتنظيم شن هجمات دورية. لكن ثمة متعاقدين أمنيين روساً وسوريين خاصين يحرسون مناجم الفوسفات، كما القوافل المتجهة نحو الساحل.
تجدر الإشارة إلى أنّ الفوسفات ضروري للمحاصيل وعلف الحيوانات، وتعتمد الزراعة الأوروبية على صناعة الفوسفات العالمية التي تقدر بحوالي 55 مليار دولار. وكانت سورية واحدة من أكبر مصدري الفوسفات في العالم قبل أن يبدأ النظام السوري حملته الأمنية لقمع الثورة عام 2011، وانهيار الصناعة عندما استولى "داعش" على المنطقة المحيطة بالمناجم في عام 2015.
الفوسفات ضروري للمحاصيل وعلف الحيوانات، وتعتمد الزراعة الأوروبية على صناعة الفوسفات العالمية التي تقدر بنحو 55 مليار دولار
وبعدما أرسلت روسيا قوات إلى سورية في ذلك العام، وساعدت الأسد في نهاية المطاف على استعادة السيطرة على معظم البلاد، ردّ النظام السوري الجميل من خلال تسليم عقود سخية للشركات الروسية في بعض القطاعات الأكثر ربحية في البلاد.
وفي عام 2018، سلّمت "الشركة العامة السورية للفوسفات والمناجم" Gecopham المملوكة لوزارة النفط والثروة المعدنية، المسؤولية على أكبر مناجم الفوسفات في سورية إلى شركة "سترويترانسغاز" Stroytransgaz الروسية التي يملكها تيمشينكو، أحد أغنى الأثرياء في روسيا، علماً أنه على صداقة مع بوتين منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين على الأقل، عندما كان الأوليغارشي تاجر نفط في مدينة سانت بطرسبرغ. لكن هذا الملياردير ينفي مزاعم تدعي أنه إحدى واجهات ثروة بوتين الشخصية، قائلاً إنّه وبوتين "مجرد شريكين في لعبة الجودو".
وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على "سترويترانسغاز" عام 2014 بعد أن ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، لذلك نأى تيمشينكو بنفسه عن عمليات شركته في سورية، والتي يعود تاريخها إلى أوائل القرن الحادي والعشرين.
وفي عام 2016، استولى كبار موظفي "سترويترانسغاز" على شركة لوجستية روسية غامضة وأعادوا تسميتها "سترويترانسغاز (إس تي جي) لوجيستك" Stroytransgaz (STG) Logistic، التي تشير الأوراق إلى أنها مملوكة لشركة مقرها موسكو تدير أعمالاً لعملاء مجهولين. كما تدير صادرات الفوسفات للنظام السوري مقابل 70% من العائدات.
وفي عام 2018، باع تيمشينكو شركة فرعية اسمها "سترويترانسغاز (إس تي جي) إنجينيرينغ" Stroytransgaz (STG) Engineering لشركتين صوريتين مقرهما موسكو، بحسب التحقيق نفسه. وبعد فترة وجيزة، فازت الشركة بعقود لتشغيل ميناء التصدير في طرطوس على الساحل السوري ومصانع الأسمدة التي يديرها النظام، مما أتاح للشركات التي تستخدم اسم "سترويترانسغاز" التحكم في سلسلة توريد الفوسفات بأكملها في سورية.
الشركات التي تستخدم اسم "سترويترانسغاز" تتحكم في سلسلة توريد الفوسفات بأكملها في سورية، علماً أنها تنفي أي صلة بهذه الشركات
وتنفي "سترويترانسغاز" الآن أي صلة بهذه الشركات. فقد قالت المتحدثة باسمها ناتاليا كالينيشيفا إنه مجرد اختصار مماثل لاسم الشركة، مشيرة إلى أنّ (إس تي جي) إنجينيرينغ "هي كيان قانوني منفصل وليست جزءاً من مجموعة شركاتنا".
لكن سجلات الشركة السورية والروسية تُظهر أنّ كبار المسؤولين في "سترويترانسغاز" لعبوا أدواراً رئيسية في تشكيل هذه الشركات، بما في ذلك مديرها السابق إيغور كازاك والموظف الحالي لدى تيمشينكو، زاكيد شكسوفاروف.
خبيرة العقوبات ومديرة استخبارات المخاطر في شركة فايف باي سوليوشنز الاستشارية أيرين كينيون، قالت للصحيفة إنّ تاريخ هذه الشركات منحها "ثقة عالية جداً" في أنها مملوكة أو مسيطر عليها من قبل تيمشينكو. وأوضحت أنّ "هذه منهجيات شائعة جداً: إنشاء طبقات وطبقات من الشركات الوهمية للمساعدة في إخفاء الملكية المفيدة النهائية للأشخاص الخاضعين للعقوبات".
ديميترو فيرتاش.. رجل بوتين في أوكرانيا
سورية هي أكبر مورد للفوسفات إلى أوكرانيا، على الرغم من علاقة كييف المتوترة مع دمشق منذ أن دعم الأسد غزو القرم. فقد اعتادت شركات الأسمدة الأوكرانية على الشراء مباشرة من النظام السوري، لكن منذ استئناف الواردات عام 2018، تمر التجارة عبر شبكة من الشركات الجديدة الغامضة.
وتصل الغالبية العظمى من الفوسفات السوري إلى أوكرانيا عبر ميناء "نيكا تيرا"، جنوب غربي مدينة ميكولايف (جنوب)، التي أصبحت الآن على خط المواجهة في الحرب الروسية في أوكرانيا، علماً أنّ الميناء مملوك للأوليغارشي ديميترو فيرتاش الذي يسيطر أيضاً على أكبر منتج للأسمدة الفوسفاتية في أوكرانيا، "ساميخيمبروم" Sumykhimprom.
وفي حين أنّ الشركة المشار إليها مملوكة للدولة من الناحية الفنية، إلا أنها تدار من قبل شريك تجاري مقرب من فيرتاش وتدين لشركات الأوليغارشي الروسي بملايين الدولارات، وفقاً لتحقيق أجرته إذاعة أوروبا الحرة "راديو ليبرتي".
ديميترو فيرتاش يسيطر على أكبر منتج للأسمدة الفوسفاتية في أوكرانيا ساميخيمبروم ويدين بثروته لصفقات مع الشركات التي يسيطر عليها الكرملين
الخبير في شؤون روسيا وأوكرانيا في معهد تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث جون لوف قال: "ليس من غير المألوف أن يسيطر اللاعبون الأقوياء في أوكرانيا على الشركات المملوكة للدولة بهذه الطريقة".
وفيرتاش هو أحد أغنى الرجال في أوكرانيا، ويدين بثروته لصفقات مع الشركات التي يسيطر عليها الكرملين، بما في ذلك خطة تقارب 3 مليارات دولار لإعادة بيع الغاز الطبيعي الروسي بأسعار منخفضة في أوكرانيا وكسب الفارق.
وفي المقابل، قام بتمويل سياسيين موالين لروسيا في أوكرانيا. وفي وقت سابق من هذا العام، شجب حرب بوتين في أوكرانيا، وقال لشبكة "إن بي سي" الأميركية: "لم أكن أبداً مؤيداً لروسيا، لكن عليك أن تفهم أنني رجل أعمال وهدفي هو كسب المال".
وامتد نفوذه ذات مرة إلى بريطانيا، حيث يمتلك قصراً في أغلى أحياء لندن، وأصبح أحد المستفيدين الرئيسيين من جامعة كامبريدج. كما يدير الآن إمبراطوريته التجارية الشاسعة من النمسا.
وكانت هذه الشركة أكبر مستورد للفوسفات إلى أوكرانيا حتى عام 2020، عندما اختفت من سجلات الاستيراد. ومع استمرار الشركة في إنتاج الأسمدة الفوسفاتية، يبدو أنها تقوم بتوريد موادها من خلال أطراف ثالثة. ولم ترد الشركة على طلبات متعددة للتعليق على ما إذا كانت تشتري الفوسفات السوري، وفقاً للتحقيق نفسه.
السوق الأوروبية المتنامية تطلب الفوسفات السوري
في الآونة الأخيرة، بدأت الشركات في دول الاتحاد الأوروبي أيضاً في شراء الفوسفات السوري مجدداً. فقد استأنفت إيطاليا التجارة عام 2020، ثم تلتها بلغاريا العام الماضي وبولندا وإسبانيا في يناير/ كانون الثاني 2022.
من المرجح أن ينمو الطلب الأوروبي أكثر لأن الحرب الروسية على أرض أوكرانيا تعطل أسواق الفوسفات والأسمدة
وتنمو التجارة بسرعة بسبب الأسعار المتصاعدة، وفقاً للمستوردين الأوروبيين ومحللي الصناعة. فقد قال محلل الفوسفات في مجموعة أبحاث السلع "سي آر يو" CRU غلين كوروكاوا، إنّ "الفوسفات السوري مخضب بالدم ليس فقط بسبب الصراع في سورية ولكن أيضاً بسبب ما يحدث في أوكرانيا".
وفيما من المرجح أن ينمو الطلب الأوروبي لأنّ الحرب في أوكرانيا تعطل أسواق الفوسفات والأسمدة، قال خبير العقوبات يوليوس سيدنادر إنّ تجارة الفوسفات في سورية كشفت كيف أنّ تطبيق أوروبا غير المنتظم للعقوبات وصعوبة سد الثغرات، يمكن أن يقوّضا عقوباتها الأخيرة على روسيا بشأن أوكرانيا.
وانتهى إلى القول: "سواء أكان الأمر يتعلق بالأوليغارشية أو الطائرات الخاصة، فقد أصبح الروس أسياداً في إخفاء الأصول عبر الشركات الوهمية"، علماً أنّ الاختباء خلف الشركات الوهمية يجعل من الصعب للغاية تفعيل العقوبات سواء بالنسبة إلى النظام في سورية أو روسيا.