تأثيرات شهادة باول أمام الكونغرس على أسواق المال واقتصادات الدول

09 مارس 2023
رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي جيروم باول (Getty)
+ الخط -

هزّت إفادات رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، جيروم بأول أمام الكونغرس مساء الثلاثاء أسواق العالم والتي قال فيها، إن "البيانات الاقتصادية الأخيرة جاءت أقوى من المتوقع"، مما يشير إلى أن "المستوى النهائي لأسعار الفائدة من المرجح أن يكون أعلى مما كان متوقعاً في السابق".

وتترجم تعليقات باول أن الدولار سيواصل استعراض قوته أمام العملات العالمية، كما تتواصل متاعب الاقتصادات العالمية وأسواق المال التي كانت تأمل في انتهاء زيادات الفائدة الأميركية أو حتى خفضها خلال العام الجاري. ويبدو أن الإدارة الأميركية غير راضية عن تصريحات باول، إذ قال البيت الأبيض أمس إنه لن يتدخل في السياسات النقدية لمجلس الاحتياط الفيدرالي، لكن عليه التمهل في ما يتعلق برفع أسعار الفائدة.
ويعتمد البيت الأبيض على باول، وهو جمهوري معتدل، لتوجيه الاقتصاد نحو "هبوط سلس" ينخفض فيه التضخم دون الوقوع في براثن الركود، فيما يستعد الرئيس الديمقراطي جو بايدن لحملة رئاسية ثانية تركز على توفير فرص العمل وزيادة الاستثمارات.
لكن لماذا يصرّ الفيدرالي على الفائدة المرتفعة، وكيف تستخدم الولايات المتحدة الدولار القوي في خفض التضخم؟
على الصعيد الأميركي، يرى محللون، أن الدولار القوي يجعل الواردات الأجنبية أرخص بالنسبة للمستهلك. إذ إن الشركات الأميركية حينما تشتري سلعاً من أوروبا ويكون اليورو ضعيفًا والدولار قويًا، فإن الواردات الأجنبية تكون أرخص في المتاجر الأميركية. وتترجم هذه الأسعار المنخفضة للسلع المستوردة في تضخم منخفض في الولايات المتحدة. وعبر الدولار القوي يأمل الفيدرالي كذلك خفض التضخم. ولكن استخدام الدولار كأداة لخفض التضخم ربما ينتهي إلى خسارة الشركات الأميركية لحصة من أسواقها العالمية لصالح الصين ودول جنوب شرقي آسيا وربما ستجد صعوبة في استعادتها في المستقبل، وفق مراقبين.
كما يأمل الفيدرالي عبر الدولار القوي الضغط على الشركات الأميركية لتخفيض أسعارها حتى لا تخسر حصتها من الواردات المستوردة الرخيصة. ويقدر حجم السوق الشرائية السنوية في الولايات المتحدة بأكثر من 18 تريليون دولار.
ويقول محللون إنه عندما يرفع مجلس الاحتياط الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال، فإنه عادة ما يزيد ذلك من أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، مما يجعل الدولار أقوى من العملات الأخرى، وبالتالي تتمكن الولايات المتحدة من جذب العوائد المرتفعة الآتية من المستثمرين في الخارج لشراء الأصول الأميركية، حسب تحليل بموقع" إنفستوبيديا" الأميركي.

تمويل العجز من تدفق الأموال الأجنبية

تدفق الأموال الأجنبية على الأصول الأميركية يساعد الولايات المتحدة على تمويل العجز في الميزانية والاستمرار في الاستدانة دون أخطار تذكر. وبلغت الديون السيادية الأميركية أكثر من 30 تريليون دولار، حسب البيانات الحكومية الأخيرة. ونسبة لمكانة الدولار الكبير في التسويات التجارية العالمية واحتياطات المصارف المركزية، فإن تسعير صرف الدولار يلعب دورًا بارزاً في التضخم الأميركي والعالمي، حيث يرفع أسعار السلع الأميركية للمستوردين من خارج أميركا ويخفض أسعار السلع المستوردة، وبالتالي يضغط على الشركات الأميركية التي تبيع منتجاتها محلياً لخفض أسعارها. وعلى سبيل المثال، يحتاج المشترون الأوروبيون إلى تحويل اليورو إلى الدولار لإجراء عمليات شراء السلع الأميركية. وهو ما يقود تلقائياً إلى زيادة معدل التضخم في أوروبا.

الجنيه الإسترليني يهتزّ

على صعيد أسواق الصرف العالمية، تدفع الفائدة المرتفعة الدولار إلى مزيد من القوة مقابل العملات العالمية. وأدت إفادات رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، جيروم باول إلى تراجع سعر صرف معظم العملات الرئيسية في العالم. وحسب بيانات موقع "باوند ستيرلنغ" اللندني، خسر الجنيه الإسترليني مكاسب ملحوظة مقابل الدولار كسبها خلال الشهر الماضي، كما انخفض اليورو والين والفرنك في تعاملات أمس الأربعاء.
وهيمنت المعنويات السلبية على المستثمرين بالعملات ولجأوا إلى الهروب والدفاع عن استثماراتهم السابقة في الجنيه الإسترليني الذي يميل إلى المعاناة. فيما سلطت إفادات باول الضوء على الهوة المتنامية بين توقعات أسعار الفائدة لبنك إنكلترا وتلك الخاصة بالاحتياط الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي.
وانخفض سعر صرف الإسترليني مقابل الدولار بنسبة 1.30% إلى 1.1870 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني. في هذا الشأن، قالت محللة الأسواق بشركة "آي جي ماركتس"، هيبي تشين: "بالنسبة للسوق الآسيوية، فإن التعليقات المتشددة لبنك الاحتياط الفيدرالي أطفأت الأمل الذي أشعلته مؤخرًا احتمالات الموقف الناعم للبنك الأميركي.

العملات الآسيوية نحو التراجع

وفي أسواق آسيا، هزّت إفادات باول الأصول الآسيوية التي عانت أمس الأربعاء من ضغوط بيع مكثفة. ويقول محللو الأسواق بشركة سيتاديل الأميركية، إن الركود الأميركي قادم بعد هذه التعليقات. ويتوقع محللون في موقع "باوند ستيرلنغ" أن تشهد العملات الآسيوية مزيداً من التراجع مقابل الدولار بسبب الفارق في الفائدة على اقتراض الأموال بين بنك الاحتياط الفيدرالي والبنوك المركزية الآسيوية. ومن المتوقع أن تتراجع عملات اليابان ودول جنوب شرقي آسيا. وحسب محللين، فإن هذه الدول ربما ستشهد هروب المزيد من الثروات إلى أميركا، وتزيد من معاناة النمو الاقتصادي والتمويلات المطلوبة في الأسواق.

تراجع أسواق الأسهم في الخليج

وفي منطقة الخليج، أدت إفادات باول إلى تراجع أسواق الأسهم الرئيسية في دول مجلس التعاون في التعاملات المبكرة أمس الأربعاء، حيث يتوقع المستثمرون أن تقود الفائدة المرتفعة على الدولار إلى تراجع أسعار النفط، وبالتالي مداخيله.

وتزامنت إفادات باول مع بيانات الصادرات الصينية الضعيفة لشهري يناير/ كانون الثاني ونوفمبر/ تشرين الثاني يوم الثلاثاء، والتي من المتوقع أن تدفع أسعار النفط إلى التراجع أكثر خلال الفترة المقبلة، وتعاني مبيعات النفط الخليجي في آسيا أساساً من منافسة الخامات البترولية الروسية الرخيصة. وتربط معظم دول الخليج عملاتها بالدولار، وبالتالي تواكب سياستها النقدية سياسة بنك الاحتياط الفيدرالي عن كثب. وتتوقع أسواق المال بدول الخليج واقتصادات الدول الناشئة مزيداً من الضغوط خلال الشهور المقبلة.
في هذا الشأن، قالت محللة الأسواق الناشئة بمصرف "ويلز فارغو" الأميركي في نيويورك، بريندان ماكينا، "لقد كانت تعليقات باول أكثر تشددًا بكثير مما توقعته الأسواق وأصبح السيناريو الآن أن الفائدة المرتفعة ستستمر لفترة أطول". وأضافت "كانت الأسواق تأمل حقًا في توقف الفيدرالي عن زيادات الفائدة وحتى تخفيضاته هذا العام". وتعني الفائدة المرتفعة ارتفاع كلف الفائدة على الشركات الخليجية وشركات الدول الناشئة عموماً.

المتاعب ستزداد في الأسواق النامية

في الأسواق النامية يزيد الدولار القوي من متاعب الدول الناشئة، خاصة الدول ذات المديونية المرتفعة في آسيا والمنطقة العربية مثل باكستان ومصر وإندونيسيا والأرجنتين وتونس. ويعاني العديد من هذه الدول من صعوبات مالية كبيرة وتخضع لمراقبة ومساعدات وقروض صندوق النقد والبنك الدولي. ويتوقع محللون أن يقود الدولار القوي بعد إفادات باول إلى أزمات في الحصول على تمويل لخدمة ديونها التي أخذت بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى.
وتتوقع شركة "ديلويت" الأميركية لتدقيق الحسابات في تقرير، أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار إلى ارتفاع حاد في تكلفة المعيشة وإضعاف الطلب المحلي في الدول الناشئة. وتواجه الحكومات والشركات في الاقتصادات الناشئة منذ أكثر من عام أزمات مالية في ميزان المدفوعات واحتياطات النقد الأجنبي، لأن معظم اقتراضها كان بالدولار والعملات الأجنبية خلال الأعوام الأخيرة.
ونما الاقتراض الخارجي للاقتصادات الناشئة بأكثر من 80% ومعظمها بالدولار. وتشير دراسات اقتصادية، إلى أن ارتفاع قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة يؤدي إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 1.5 في المائة مقارنة بالاتجاه السائد في اقتصادات السوق الناشئة. وشهدت العديد من الاقتصادات الناشئة انخفاضًا في التصنيف السيادي، وعانت البلدان ذات المستويات المرتفعة من الديون الخارجية مقارنة باحتياطيات النقد الأجنبي. وواجهت الدول الناشئة صعوبات في تغطية فاتورة الواردات الرئيسية من الوقود والمواد الغذائية بسبب نقص الدولارات خلال العام الماضي.
ومنذ مارس/ آذار الماضي، رفع المركزي الأميركي أسعار الفائدة مما يقرب من الصفر إلى النطاق الحالي من 4.50 إلى 4.75% لخفض التضخم من أعلى مستوياته في 40 عاماً، والذي بلغه في منتصف 2022. لكنه أبطأ وتيرة الزيادة إلى ربع نقطة مئوية في اجتماعه الأخير، بعد سلسلة من الزيادات الكبيرة خلال  العام الماضي.

المساهمون