بين العولمة والعوممة

03 فبراير 2022
التكنولوجيا المتقدمة تزيد التواصل والتسويق (Getty)
+ الخط -

لمّا صدرت كلمة "Globalization" في نهايات عقد الثمانينيات من القرن الماضي، واكتسبت الكلمة مزيداً من الزخم على المستوى العالمي، وكسا عظامها لحمٌ، وصار لها خَلْق جديد يكاد الناس حول العالم يتلمّسونه، احتار المترجمون واللغويون في مصطلح عربي يجسّد هذا المخلوق الجديد.

وقد كثرت التعابير والمصطلحات مثل العالمية، والعولمة، والكونية، والكوننة، والتكوين، وغيرها. ولكن كلمة العولمة طغت في النهاية، وصارت هي الاصطلاح المتداول على المستوى العربي.

وقسّم الناس موقفهم من كلمة العولمة ضمن إطارين: الأول، أن العولمة ظاهرة فنية تكنولوجية، تقرّب المسافات، وتختزل الزمن المطلوب لكي يتواصل الناس مع بعضهم بعضا، حتى باتت المسافات والأزمان تقترب من الصفر.

ولعل أجمل تصوير لها هو دعاية لشركة فرانس تيليكوم، شركة الاتصالات الرئيسية في فرنسا وثالث أكبر شركة في أوروبا، وواحدة من أكبر الشركات في العالم، تصوّر رجلاً على المحيط الهادئ في الصين ينظر إلى الشمس وهي تغيب، وشخصٌ آخر يقف على شاطئ المحيط نفسه في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية.

ويتصل الشخص الصيني بالأميركي هاتفيا، ويسأله وهو يرى قرص الشمس يسقط في الأفق: هل وصلت؟ فيجيبه الأميركي، وهو يرى قرص الشمس يبزغ في الأفق: نعم، إنها (الشمس) قد صارت هنا".

السيطرة على العالم

الإطار الثاني هو، أن أصحاب التكنولوجيا المتطوّرة، سواء في مجال علم الحواسيب، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أو في مجال العلوم الفضائية، قد حوّلوا هذا التفوّق إلى مدرسة فكرية تسعى إلى السيطرة على العالم، وتجسّد هذه الأفكار في نظرية بحكم التطور العلمي. هو ما يطلق عليه باللغة الإنكليزية "Globalism". ولمّا عدتُ شخصيا إلى بعض المراجع العلمية لأرى أحسن ترجمة لها، وجدت أن الغالبية تقول إنها "عولمة".

وهذا في رأيي وضع محير، فلا يمكن للغة العربية أن تحتار في التمييز بين ظاهرة العولمة ومدرسة العولمة. ولذلك اقترحت أن تكون ترجمة كلمة "Globalism" العولميّة، وليس العولمة.

موقف
التحديثات الحية

وشطح بي الخيال إلى أبعد من ذلك، فقلت إذا استمرّت الدراسات الفلسفية حول "العولميّة" فماذا نسمّي نشرها وتعميمها على العالم.

الكلمة الإنكليزية للسعي إلى تعميم الأفكار والمبادئ والقناعات هي "universalization". ولما رجعت إلى الترجمة المقترحة لهذه الكلمة وجدت أنها "التعميم"، ووجدت أن هذا المصطلح لا يكفي لكي يعكس المفاهيم الأكاديمية لهذه الكلمة، وأقترح أن نسمّيها "العوممة".

عوممة الأفكار الدينية

وإذا عدنا إلى تاريخ الديانات التبشيرية في العالم، مثل المسيحية والإسلام، أو الديانات غير التوحيدية، كالبوذية والهندوسية، والتي يقول بعضهم إنها فلسفات أكثر منها ديانات، فهي كلها تشترك في السعي إلى عوممة أفكارها على مستوى الكرة الأرضية، وبعضها يحقق اختراقات أكثر من الديانات والفلسفات الأخرى.

ولو تأملنا في البيان الشيوعي أو "المانيفيستو" الذي أصدره كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلز في عام 1848 ويضم خلاصة أفكارهما، لرأينا أنه ليس إلا محاولة مكبسلة لعوممة هذه الفلسفة الشيوعية.

والعجيب أن البيان الشيوعي يصف سلوك الرأسمالية بأنه يعمل على نشر المنهجيات الرأسمالية وثقافتها لكي تكون السائدة عالمياً حتى يتمكّن الرأسماليون، عبر التشابه السلوكي والثقافي، من بيع المزيد من السلع والخدمات على مستوى العالم... وهذه ملاحظة دقيقة سبقت عصر الرأسمالية التسويقية بعقود.

الفرق بين التسويق والترويج

وعدنا الآن إلى الحديث عن الفرق بين التسويق والترويج. فقسم المبيعات في الشركات المنتجة للسلع والبضائع يختلف عن قسم التسويق. يشير الثاني أي الترويج إلى وسائل الترويج السريعة لبيع المنتجات، بينما التسويق يشير إلى الاستراتيجية الكلية لرسم صورة انطباع عن الشركة ومنتجاتها وخطط التموضع في الأسواق المختلفة ووسائل الانتشار سواء عبر الزمان أو المكان، وتغيير شكل تصميم وتغليف البضائع مع تغير الأذواق لتصل إلى أعمار وأذواق جديدة من الناس، وأماكن جغرافية لم تكن ضمن المدار التسويقي للشركة سابقاً.

موقف
التحديثات الحية

ونرى العالم يشهد حالياً صراعاً بين العولمة والعوممة، فالقضية الفلسطينية عانت الأمرّين من ترويج الصهيونية فكرها والنقد اللاذع والشيطنة لكل من يعاديها، وبخاصة الشعب الفلسطيني.

والآن بدأ يتبلور مشروع فكري يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ويؤطره ليكون معولماً، وفي الوقت نفسه، صارت عوممته ممكنةً بفضل جهود الشباب والمفكرين، وبفضل وسائل الاتصال الحديثة المتاحة عبر العولمة.

ولقد قامت منظمات، مثل منظمة العفو الدولية وهي حركة عالمية تضم أكثر من 10 ملايين شخص، في ما يزيد عن 150 بلداً وإقليماً، يناضلون من أجل وضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان، ومنظمة حقوق الإنسان، في تقريرهما الصادر يوم 31 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) ومؤسسة بيت سالم الإسرائيلية تصف كلها إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري (أبارتهايد)، على غرار ما كان يجري في جنوب أفريقيا.

ولو تأملنا في الصراع الدائر حالياً بين الأميركان والروس، والذي بدأ يتمحور بشكل كبير حول أوكرانيا سنرى أن صراع المصالح يتأطر داخل علب فكرية، يسعى كل منها إلى إظهار نفسه أنه يمثل الجانب الأرفع خلقاً ومبدئيةً.

إذن، نحن الآن أمام صراعات لها جانبان؛ واحد مصلحي يسعى إلى الهيمنة على النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه تظهر على الأفق (العولمية) وصراع فكري ترويجي اسمه "العوممة".

وكلاهما سيكون عنواناً لكل الصراعات القادمة لكسب القلوب والعقول في معارك قد تكون قاسية جداً، علماً أنها في أساسها معارك مصالح قبل أن تكون أي شيء آخر.

المساهمون