استمع إلى الملخص
- ارتفعت تكاليف الاقتراض في المملكة المتحدة إلى مستويات قياسية، مما يضع ضغوطاً على الاقتصاد ويثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على إدارة الدين الوطني البالغ 2.8 تريليون جنيه إسترليني.
- تواجه بريطانيا تحديات اقتصادية تشمل ارتفاع التضخم، تباطؤ النمو، وارتفاع الدين السيادي، مما يضعف القوة الشرائية ويزيد من تكاليف المعيشة.
تشهد بريطانيا بوادر أزمة مالية حادة أعادت إلى ذاكرة المستثمرين وأسواق المال الأزمتين الحادتين اللتين شهدتهما البلاد في العامين 1976 و2022. وانعكست بوادر الأزمة المالية على أسواق المال في بريطانيا، حيث تراجع سعر صرف الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوى له منذ نحو 14 شهراً، أمس الخميس، وفق بيانات "بلومبيرغ"، وسط مخاوف بشأن قدرة الحكومة البريطانية على السيطرة على الدين العام وأداء الاقتصاد، إلى جانب تهديدات دونالد ترامب بزيادة الرسوم الجمركية. وانخفضت الأسهم البريطانية، وواصلت السندات الحكومية خسائرها لليوم الرابع بسبب القلق من أن حكومة حزب العمال ستكافح من أجل إبقاء العجز المالي تحت السيطرة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض.
ووفق الأرقام، انخفض الإسترليني إلى أدنى مستوى له منذ عام 2023 بعد فشل تدخل وزيرة الخزانة راشيل ريفز في تهدئة الأسواق المالية داخل المملكة المتحدة، وبلغ 1.2284 دولار. وطرح أعضاء في مجلس النواب البريطاني استجوابات بشأن الاضطرابات في الأسواق المالية، بحسب صحيفة تليغراف البريطانية. وقال لي هاردمان، المحلل في بنك "إم يو إف جي"، إن ضعف الجنيه يعكس حالة من عدم الارتياح المتزايدة بين المستثمرين بشأن وضع سوق السندات الحكومية البريطانية.
ووفق البيانات في سوق لندن المالي، ارتفعت تكاليف الاقتراض القياسية في المملكة المتحدة إلى أعلى مستوى منذ الأزمة المالية، حيث هرب المستثمرون من السندات السيادية بسبب مخاوف التضخم. ووصل العائد على السندات الحكومية أجل 30 عاماً إلى 5.47% أمس، متجاوزاً أعلى مستوى سابق في أغسطس/ آب 1998. كما ارتفع العائد على السندات لأجل عشر سنوات كذلك إلى أعلى مستوى له منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2008، ليصل إلى 4.8% وفق بيانات "تريدنغ إيكونومكس" أمس.
وتشير بيانات مكتب الإحصاء البريطاني إلى أنه اعتباراً من يناير/ كانون الثاني الجاري، بلغ الدين الوطني للمملكة المتحدة حوالي 2.8 تريليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ويمثل هذا أكثر من ضعف مستوى الديون في نهاية الثمانينيات وحتى الأزمة المالية في عام 2008. ويتوقع مكتب الميزانية البريطاني الحكومي أن يصل إجمالي الإنفاق على فوائد الديون إلى 89.0 مليار جنيه إسترليني في الفترة بين 2024-2025. وحسب بيانات المكتب على موقعه، يمثل ذلك 7.3% من إجمالي الإنفاق العام ويعادل حوالي 3.2% من الدخل القومي. وهذه الأرقام أثارت السؤال في أسواق المال حول ما إذا كانت بريطانيا تواجه أزمة مالية؟
ويقارن محللون اضطراب السندات الحالي في بريطانيا مع كارثة الميزانية المصغرة لعام 2022 التي شهدتها ليز تراس، وكذلك أزمة الديون في السبعينيات التي اضطرت بريطانيا إلى طلب قرض بقيمة 3.9 مليارات جنيه إسترليني من صندوق النقد الدولي في العام 1976. وبحسب دراسة لمصرف باركليز صدرت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فإن العائد على السندات لأجل عشر سنوات من المرجح أن يظل متقلباً على المدى القريب بسبب الشكوك المستمرة المحيطة بالتضخم والنمو الاقتصادي. ويقترح المصرف على المستثمرين توخي الحذر والتفكير في تنويع محافظهم الاستثمارية للتخفيف من المخاطر المرتبطة بالزيادات المحتملة في أسعار الفائدة.
وتُعيد الأزمة المستفحلة التي تعانيها سندات الديون البريطانية إلى الذاكرة أزمة الديون الحادة التي انفجرت قبل نحو 48 سنة، في حين أنّ ارتفاع عائد السندات يثير بعض المقارنات مع كارثة الموازنة المصغرة في عهد رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس التي حكمت 50 يوماً فقط عام 2022. ونقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية، أمس الخميس، عن صانع سياسة أسعار الفائدة السابق في بنك إنكلترا المركزي مارتن ويل تحليلاً مفاده أنّ حكومة حزب العمال قد تضطر للجوء إلى التقشف لطمأنة الأسواق بأنها ستعالج عبء الديون البريطانية المتصاعد.
ولاحظت "بلومبيرغ" أنه على مدار الأيام القليلة الماضية، ارتفعت تكاليف الاقتراض طويلة الأجل في المملكة المتحدة وانهار الجنيه الإسترليني، في تزامن نادر يمكن أن يشير إلى أنّ المستثمرين فقدوا الثقة بقدرة الحكومة على إبقاء الديون البريطانية الوطنية تحت السيطرة وضبط التضخم، علماً أن من شأن العائدات الأعلى عادة أن تدعم العملة المحلية.
في هذا السياق، قال مارتن ويل إنّ الأحداث الحالية تعكس كابوس أزمة الديون البريطانية في عام 1976 الذي أجبر الحكومة على طلب خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي. كما يهدد الارتفاع الحالي في تكاليف الديون بمحو الاحتياطي الضئيل، البالغ 9.9 مليارات جنيه إسترليني (12.2 مليار دولار)، المتاح لوزيرة الخزانة راشيل ريفز للمناورة بقواعد الموازنة الخاصة بها، وإحداث حالة من عدم الاستقرار قبل التحديث المالي الرسمي في 26 مارس/ آذار المقبل.
ونقلت "بلومبيرغ" عن بعض الخبراء الاقتصاديين والمستثمرين إلقاءهم اللوم في تحركات السوق على الشكوك حول وعد حزب العمال بتمويل زيادة كبيرة في الإنفاق بأسرع وتيرة. ومن هؤلاء ويل نفسه الذي يشغل حالياً منصب أستاذ اقتصاد في "كينغز كوليدج لندن"، الذي قال في مقابلة مع الوكالة: "لم نشهد حقاً المزيج السام المتمثل في الانخفاض الحاد في الجنيه الإسترليني وارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل منذ عام 1976. وقد أدى ذلك إلى خطة إنقاذ صندوق النقد الدولي. وحتى الآن، لسنا في هذا الموقف، لكن يجب أن يكون هذا أحد كوابيس وزيرة الخزانة".
من جانبه، قال مصرف "إتش إس بي سي"، في تعليق على جاذبية السندات طويلة الأجل وسط توقعات التضخم المتزايدة في دراسة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إنه "في حين أن السندات البريطانية قصيرة الأجل قد تقدم عوائد أقل، فإن السندات طويلة الأجل يمكن أن توفر عوائد أفضل إذا استقر التضخم". ويوصي البنك باتباع نهج متوازن للمستثمرين الذين يتطلعون إلى الأوراق المالية ذات الدخل الثابت.
واعتباراً من يناير الجاري، أصبح الوضع المالي في بريطانيا معقداً ومتعدد الأوجه، ويتميز بالعديد من المؤشرات الاقتصادية التي تثير قلق المستثمرين وتبعث عدم الثقة في وضع أموالهم بالأدوات المالية البريطانية. ويمكن حصر التحديات الاقتصادية التي تواجه بريطانيا في الوقت الراهن في أربع نقاط رئيسية، هي: ارتفاع التضخم وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع الدين السيادي وتراجع ثقة المستهلك.
فالتضخم المرتفع من القضايا الأكثر إلحاحاً التي تواجه الاقتصاد البريطاني. وفي السنوات الأخيرة، وخاصة في أعقاب جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية بسبب الحرب الأوكرانية، ارتفع التضخم بشكل كبير. واعتباراً من أواخر عام 2023 وحتى أوائل عام 2025، أظهرت معدلات التضخم علامات الاستقرار ولكنها تظل أعلى من المعدل المستهدف لبنك إنكلترا البالغ 2%. وعادة ما يؤدي ارتفاع التضخم إلى تآكل القوة الشرائية وزيادة التكاليف على الشركات والمستهلكين.
أما التحدي الثاني، فهو أن النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة ظل بطيئاً. وبعد أن شهد الاقتصاد انكماشاً خلال الجائحة، كان التعافي متفاوتاً. وكافحت حكومة المحافظين الماضية لرفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للوصول إلى مستويات ما قبل الوباء باستمرار، ولكنها فشلت في ذلك. وتشمل العوامل التي تساهم في هذا الركود اضطرابات سلسلة التوريد، ونقص العمالة الذي تفاقم بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وارتفاع تكاليف المعيشة. وتعاني بريطانيا من ارتفاع كلف التدفئة بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي.
وبالنسبة إلى الثالث، فإن ارتفاع الدين السيادي البريطاني العامل الحاسم الآخر في أزمة بريطانيا، حيث ظلت الحكومات المتعاقبة تنفق أكثر من الدخل الذي تحصل عليه من الضرائب، وهو ما أدى إلى تراكم العجز في الميزانيات لترفع الدين السيادي وقيمة ما تدفعه الحكومة لخدمة هذه الديون. وبالتالي تراكمت على حكومة المملكة المتحدة ديون كبيرة نتيجة للإجراءات المالية واسعة النطاق التي اتُّخذت خلال الوباء لدعم الشركات والأفراد.
التحدي الرابع: في حين يزعم بعض الاقتصاديين أن المستويات المرتفعة من الديون يمكن تحملها إذا جرت إدارتها بشكل صحيح، فإن المخاوف لا تزال قائمة بشأن كيفية خدمة هذا الدين في بيئة ترتفع فيها أسعار الفائدة. وارتفاع تكلفة الاقتراض يعني أن "هناك فرصة كبيرة لأن يحكم مكتب مسؤولية الميزانية بأن وزيرة الخزانة راشيل ريفز في طريقها إلى تجاوز قواعدها المالية الرئيسية"، وذلك وفقاً للخبيرة روث غريغوري من "كابيتال إيكونوميكس".
في تحليل حديث من بنك دويتشه، أشار كبير الاقتصاديين سانجاي راجا إلى أن ريفز ستضطر لزيادة الاقتراض وخفض الإنفاق ورفع الضرائب في ظل الظروف الاقتصادية الحالية. وأضاف راجا: "عائدات السندات الحكومية البريطانية تستمر في الارتفاع الحاد مع بداية العام. حتى قبل أن تتمكن الهيئة المسؤولة عن الميزانية (OBR) من تقديم تقريرها، تواجه الوزيرة ريفز مشكلة كبيرة.