مرّ عام كامل على الحرب الروسية - الأوكرانية، تفاقمت فيه أزمات الدول النامية بعد أن طال أمد الحرب دون أي بارقة أمل في حل سلمي أو هدنة طويلة الأمد يستطيع العالم فيها أن يلتقط أنفاسه. وعلى الرغم من أن أصوات المدافع تدوي في شرق أوروبا، فإن الأنين يسمع في مدن شتى تحت وطأة عوامل اقتصادية ومعيشية هي نتاج تلك الحرب التي اندلعت شرارتها الأولى في ليل 24 فبراير/ شباط 2022.
وكانت انعكاسات تلك الحرب على الدول النامية قاسية، بداية من شح المواد الغذائية الأساسية، وما تلاه من تعطل سلاسل الإمداد العالمية، وصولا إلى نقص في إمدادات الطاقة، وقد أثر كل ذلك بالسلب على دخل المواطن البسيط في دول تعاني في الأساس من أزمات كبيرة ومعدلات بطالة عالية وتضخم فائق.
ويكشف حجم مساهمة روسيا وأوكرانيا في الاقتصاد العالمي بجلاء عن مدى الأزمة التي سببتها الحرب للدول النامية، وإلى أي مدى أصابت العمليات العسكرية خطط التنمية في تلك الدول بعجز جزئي.
روسيا تمتلك 30% من الموارد الطبيعية في العالم
وتعد روسيا من بين أكبر اقتصادات التصدير لامتلاكها أكثر من 30 بالمائة من الموارد الطبيعية في العالم، لذا تشارك بنسبة كبيرة في التجارة الدولية وصلت إلى 789.4 مليار دولار خلال 2021، أي زيادة نسبتها 37.9 بالمائة عن عام 2020، وبلغت صادرات السلع من روسيا 493.3 مليار دولار، بواقع زيادة سنوية 45.7 بالمائة، مقابل وصول وارداتها إلى 296.1 مليار دولار، بواقع زيادة سنوية 26.5 بالمائة.
وتتجه الصادرات الروسية إلى العديد من دول العالم، وتتمثل هذه الصادرات في البترول الخام والمكرر، والغاز الطبيعي، والفحم، والحديد، والألومنيوم، والحبوب من القمح والذرة، بالإضافة إلى الذهب والماس والنحاس وغيرها لذا يلعب قطاع التصدير دورا مهما في اقتصاد روسيا، ودورا مهما في اقتصاد الدول المعتمدة عليها في توفير السلع الأولية وسد احتياجات سكانها.
أما أوكرانيا فقد بلغ حجم تجارتها الدولية عام 2021 نحو 102.9 مليار دولار من السلع المتبادلة مع البلدان في جميع أنحاء العالم، وبلغت صادراتها نحو 68.24 مليار دولار. وتتمثل صادرات أوكرانيا في الحبوب مثل الشعير والقمح والذرة، بالإضافة إلى الصلب والفحم والوقود والمنتجات البترولية، والكيماويات والآلات ومعدات النقل.
موجة تضخم قاسية
وقد شهد العالم على مدار عام 2022 واحدة من أقسى الموجات التضخمية على مدار العقود الماضية نتيجة تعدد الأزمات التي يمر بها الاقتصاد العالمي، ما أدى إلى ارتفاع التضخم العالمي وفقا لصندوق النقد الدولي إلى 8.8 بالمائة في عام 2022، وهو أعلى مستوى للتضخم على مدار ربع قرن، وارتفعت معدلات التضخم في نصف دول العالم إلى 10 بالمائة أو أكثر، وبلغت مستوى 100 بالمائة أو أكثر في بعض الدول.
وسجلت الأسعار العالمية للعديد من السلع، خاصة الغذاء والطاقة، ارتفاعات قياسية خلال عام 2022، حيث ارتفعت أسعار الطاقة وفقا للبنك الدولي بنسبة بلغت نحو 59 بالمائة، ووفقا لمنظمة الفاو ارتفعت الذرة بنسبة بلغت نحو 25 بالمائة، والألبان بنسبة بلغت نحو 20 بالمائة، والحبوب بنسبة بلغت نحو 18 بالمائة، والقمح بنسبة بلغت نحو 16 بالمائة.
كما تسبب استمرار العمليات العسكرية في حدوث انتكاسة للتعافي الاقتصادي الذي أعقب جائحة "كوفيد - 19"، ما أدى إلى زيادة أسعار المواد الغذائية والطاقة نتيجة تعطل سلاسل التوريد من روسيا وأوكرانيا، وتفاقم تضخم أسعار الغذاء على مستوى العالم، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي تقرير مماثل للبنك الدولي صدر نهاية العام الماضي، أكد أن الاقتصاد العالمي يعاني من الضعف بسبب الحرب من خلال الاضطرابات الكبيرة في التجارة وصدمات أسعار الغذاء والوقود، وكلها عوامل أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم وما يليها من تشديد في أوضاع التمويل العالمية.
وأشار التقرير إلى أن نشاط منطقة اليورو -أكبر شريك اقتصادي للاقتصادات الصاعدة والنامية في أوروبا وآسيا الوسطى- قد شهد تدهورا ملحوظا في النصف الثاني من عام 2022، جراء تعثر سلاسل الإمداد، وزيادة الضغوط المالية، وتراجع ثقة المستهلكين ومؤسسات الأعمال، غير أن الآثار الأكثر ضررا للغزو هي ارتفاع أسعار الطاقة في خضم انخفاضات كبيرة في إمدادات الطاقة الروسية.
ارتفاع الدولار وتفاقم الديون وتضاعف الأمن الغذائي
كما اعتبرت الأمم المتحدة في تقرير لها بعنوان "الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه لعام 2023" أن الاقتصاد العالمي قد تضرر من العديد من "الصدمات الشديدة" خلال عام 2022 بفعل الحرب الروسية وأزمة جائحة كورونا، حيث شهد زخم النمو في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاقتصادات المتقدمة الأخرى تراجعا كبيرا عام 2022، مما كان له العديد من الآثار على بقية الاقتصاد العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، أدت الأوضاع المالية العالمية إلى جانب ارتفاع قيمة الدولار إلى تفاقم مواطن الضعف المالية والدين في البلدان النامية، كما شهدت معظم البلدان النامية انتعاشا أبطأ للوظائف عام 2022، وما زالت تواجه ركودا كبيرا في التوظيف.
وأشار التقرير الأممي إلى أن عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد قد تضاعف عام 2022، حيث وصل إلى ما يقرب من 350 مليون شخص.
ودعا التقرير الحكومات إلى تجنب التقشف المالي الذي من شأنه أن يعيق النمو ويؤثر بشكل غير متناسب على الفئات الأكثر ضعفا، وأوصى بإعادة تخصيص وترتيب أولويات النفقات العامة من خلال تدخلات سياسية مباشرة، من شأنها خلق فرص العمل، وتنشيط النمو من خلال تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية، وضمان استمرار الدعم من خلال الإعانات الموجهة والمؤقتة، والتحويلات النقدية، والخصومات على فواتير الخدمات، والتي يمكن استكمالها بتخفيضات في ضرائب الاستهلاك أو الرسوم الجمركية.
وشدد على ضرورة إيجاد التزام دولي أقوى لتوسيع الوصول إلى المساعدة المالية الطارئة من أجل إعادة الهيكلة وتخفيف أعباء الديون عبر البلدان النامية، وتوسيع نطاق تمويل أهداف التنمية المستدامة.
أزمة سلاسل التوريد
ويرى الأكاديمي الاقتصادي أن الحرب في أوكرانيا ساهمت بشكل أساسي في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتكاليف المعيشة بشكل عام، كما أنها فاقمت المشاكل المرتبطة بسلاسل التوريد، وانخفاض مؤشر ثقة الشركات، ونمو الأنشطة الاقتصادية على المستوى العالمي. ويوضح أنّ بيانات وتوقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في الدول الصاعدة والنامية من 6.6 بالمائة في عام 2021 إلى 3.7 بالمائة في عام 2022، ثم 2.7 بالمائة في عام 2023، وهي معدلات النمو الأضعف منذ عام 2001.
أما بالنسبة لمعدلات التضخم، فإن ضغوط الأسعار ما زالت مستمرة، وهي تمثل الخطر الأساسي على دخل الأفراد، وتآكل القوى الشرائية، وزيادة معدلات الفقر، حيث إن بيانات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن معدل التضخم العالمي ارتفع من 4.7 بالمائة في 2021 إلى 8.8 بالمائة في 2022.
وأوضح أن هذه المعدلات دفعت البنوك المركزية إلى تقييد سياساتها النقدية، وتقليص حجم إنفاقها والدعم المقدم من خلال سياسات المالية العامة الخاصة بها.
ركود + تضخم + بطالة
يقول مؤيد السماره، وهو أستاذ مشارك في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة قطر، لوكالة "قنا": إنه من المتوقع أن تكون الآثار المترافقة (ركود + تضخم + بطالة) لهذه الأزمة أقل حدة خلال الأعوام المقبلة، ولكن الأمر مرهون بشكل أساسي بتطورات الحرب في أوكرانيا والصدمات المرافقة لأسعار الطاقة والغذاء، وسلاسل التوريد، وتطورات جائحة كورونا، والحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وقدرة الدول على التكيف في وجه هذه الأزمات، وإيجاد الحلول البديلة لمصادر الطاقة والغذاء بشكل أساسي.
الدول العربية
خلال عام الحرب، ارتفعت معدلات البطالة بشكل ملحوظ في الدول العربية (12 بالمائة)، رافقها ارتفاع في نسب التضخم إلى 14 بالمائة. وطبقا لإحصائيات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا"، فقد بلغ عدد الفقراء في العالم العربي اليوم 130 مليون شخص. ومقابل ارتفاع نسبة الفقر، ارتفعت نسبة التضخم في المنطقة العربية خلال العام الماضي وبلغ معدلها 14 بالمائة. وشهدت الكثير من الدول العربية تراجعا كبيرا في أسعار صرف عملتها المحلية، مما يشكل ضغوطا إضافية على كل ما سبق.
وبشأن تأثير الحرب على قطاع كبير من الدول العربية، وهي تعد من الدول النامية، يوضح الخبير الاقتصادي لـ "قنا" أن أثر صدمة أسعار الطاقة والغذاء وسلاسل التوريد يكون بشكل عام أكثر وضوحا على الدول العربية، خاصة في الدول غير المنتجة للنفط، والتي تعتمد بشكل رئيسي على مستوردات الغذاء.
وبالأساس الكثير من الدول العربية في وضع هش اقتصاديا نظرا للعديد من الأزمات التي مرت بها المنطقة العربية، والأزمة الأخيرة المتمثلة بالحرب على أوكرانيا، التي فاقمت مديونيات الكثير من الدول العربية، وجعلتها في وضع مديونية حرج، خاصة مع تشديد التمويل الدولي كوضع ضغوط إضافية على شروط الاقتراض.
5 شروط للصمود أمام الأزمة
يرى الأستاذ في كلية الاقتصاد أن الصمود أمام تلك الأزمة يتطلب خمسة شروط هي: تدعيم التنمية المستدامة، وتفعيل جدي لسياسات التنويع الاقتصادي، وتحقيق الأمن الغذائي والاقتصادي، وتدعيم سياسات الاكتفاء الذاتي، وتحقيق تكامل اقتصادي عربي وإقليمي، وأن تكون الدبلوماسية الاقتصادية والدفاعية عاملا حاسما من أجل تحويل النزاعات والتحديات إلى فرص ومكاسب.
ويوضح السماره في السياق نفسه أن سياسات التنمية الأكثر فعالية هي التركيز على النمو الاقتصادي المستدام، وذلك من خلال الاستثمار في التعليم والصحة والتكنولوجيا، وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، مما سيساهم في تنويع الإنتاج والمداخيل الاقتصادية، وتفعيل سياسات نقدية ومالية تركز على تمويل التنمية المستدامة وتحتوي التضخم. كما يفضل الاستثمار بشكل رئيسي في التنمية المستدامة، وعلى رأسها قطاع الطاقة المتجددة والابتكار، مع تحقيق استقرار سياسي، ومكافحة الفساد والتشوهات الهيكلية، التي تعاني منها الكثير من الدول العربية. هذا بالإضافة إلى إبقاء الدين العام في حدود مستدامة ولأهداف استراتيجية.
وحول دور قطاع الطاقة كقاطرة للتنمية في الدول التي تضررت من الحرب الأوكرانية، يشير السماره إلى أنه إذا كانت الدولة منتجة للنفط والغاز؛ فالحرب في أوكرانيا قد تعطيها دورا أكبر في أسواق الطاقة العالمية، وتشكل لها تحالفات وشراكات جديدة تمكن الاستفادة منها في تعزيز سياسات تمويل التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي المستدام والمستند إلى قطاعات أخرى غير نفطية. وبالتالي، قد تكون جملة الاستثمارات في قطاع الطاقة التقليدي والمتجدد داعما حقيقيا للتنمية، خاصة عند الاعتماد على المصادر الداخلية للنمو، وعدم الحاجة للمديونية الخارجية أو حتى لرفع سقف مديونيتها الحالية.
أما الدول الأخرى، فلا بد من أن تفكر مليا في تأمين مصادر بديلة ومتجددة للطاقة، تساهم في استقرارها المالي والاقتصادي، وتقلل قابلية التعرض لآثار صدمات تغيرات أسعار الطاقة، وسلسلة الآثار ذات الصلة بقطاع الطاقة كالغذاء والصناعة والنقل وغيرها. كما يجب على تلك الدول غير النفطية إدارة السياسات الاقتصادية الكلية المالية والنقدية والتجارية بشكل فعال، وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، وعدم منافسة الدولة له في كثير من القطاعات.