تُحكم المؤسسة العسكرية السودانية قبضتها على الأنشطة الاقتصادية الرئيسية في البلاد، وتسيطر على مئات الشركات العاملة في قطاعات لا علاقة لها بالأنشطة العسكرية والدفاعية، مثل الزراعة والتجارة والسياحة والطاقة والتعدين والتنقيب عن النفط والثروات المعدنية الأخرى.
ومع عدم تحويل إيرادات تلك الشركات لخزانة الدولة، تعيش المؤسسة العسكرية، ومعها الأنشطة الاقتصادية التابعة لها، وكأنها دولة داخل الدولة من حيث الموارد والإمكانيات المالية والميزانيات المستقلة التي لا تخضع لأي رقابة من أجهزة الدولة المختلفة.
لا تتوقف السيطرة عند مزاحمة المؤسسة العسكرية شركات الدولة والوزارات والمؤسسات الاقتصادية، بل وصل الأمر إلى حد احتكار بعض الأنشطة الاستثمارية، ومنافسة الشركات الخاصة والأهلية في المشروعات المدنية، وامتلاك أسماء بارزة في القوات المسلحة لشركات مدنية معروفة للمواطن بالاسم، أو على الأقل مملوكة لأشخاص من العائلة نفسها، أو من أقارب الدرجة الأولى مثل الزوجة والأبناء.
لا تتوقف السيطرة عند مزاحمة المؤسسة العسكرية للشركات العامة والخاصة، بل وصل الأمر إلى حد احتكار أنشطة وامتلاك أسماء بارزة في القوات المسلحة شركات معروفة
لا يتوقف الأمر أيضاً عند حد انخراط المؤسسة العسكرية الشديد في النشاط الاقتصادي الخاص، بل إن قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي (حميدتي)، باتت تسيطر على قطاع الذهب الحيوي في البلاد، كما سيطرت بشكل كامل على مناجم جبل عامر في عام 2017. وفي السنوات الأخيرة بات حميدتي أحد أبرز أركان تهريب الذهب إلى الخارج، لا سيما إلى الإمارات.
وعندما كان الاقتصاد السوداني ينهار والمواطن يئن ويشكو من قفزات أسعار السلع والخدمات وقت حكم النظام السابق، أطلق عمر البشير يد حميدتي في بيع الذهب الذي يمثل أغلى مورد طبيعي في السودان، ومنحه فرصة التنقيب عنه عن طريق مجموعة الجنيد التي تملكها أسرة حميدتي.
بل وسمح نظام البشير لشركات تملكها أسرة حميدتي بنقل سبائك الذهب البالغة قيمتها ملايين الدولارات إلى إمارة دبي ومطار أبوظبي بطريقة غير مشروعة.
ورغم الثورة على نظام البشير قبل نحو 3 سنوات والحديث عن مقاومة الفساد، إلا أن حميدتي ورجاله وضعوا أيديهم على معظم مفاصل المؤسسة العسكرية، لا سيما الأنشطة المرتبطة بالبيزنس وإدارة الأموال.
عقب ثورة ديسمبر 2018، تحركت قوى ثورية ومدنية لإقناع الجيش بضرورة الانسحاب من الأنشطة الاقتصادية، وإخضاع الشركات المملوكة للجيش لرقابة الدولة
لا يتوقف الأمر عند سيطرة المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع على أنشطة اقتصادية رئيسية، فهناك المليشيات التي تفرض إتاوة على المواطنين للسماح لهم بممارسة حياتهم الطبيعية من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها.
وعقب قيام ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، بدأت تحركات قوى ثورية ونخب مدنية لإقناع الجيش بضرورة الانسحاب من الأنشطة الاقتصادية المدنية، وإخضاع الشركات المملوكة للجيش لرقابة أجهزة الدولة، ومنها الجهاز المركزي للمحاسبات، لكن المجلس العسكري رفض ذلك بشدة، وأعتبر ذلك خطأ أحمر لا يجوز الاقتراب منه، وأن أمور الجيش وماليته لا يجوز للعامة الحديث عنها.
لم تكتف المؤسسة العسكرية بذلك الرفض، بل توسعت بعد ذلك في الأنشطة الاقتصادية المختلفة على حساب الاقتصاد الوطني والموازنة والخزانة العامة ومعيشة المواطن، وأحيانا خلق المجلس العسكري الأزمات المعيشية والاقتصادية للانتقام من الحكومة المدنية التي تطالبه بالانسحاب من الملف الاقتصادي واثارة الرأي العام ضدها.
والنتيجة أرباح وإيرادات ضخمة ومليارات الجنيهات تتدفق على موازنة المؤسسة العسكرية في السودان، في الوقت الذي تجف فيه الأموال والسيولة من خزانة الدولة، ولا تجد الحكومة أموالاً لاستيراد الأدوية والوقود والقمح والأغذية، وتشهد الأسواق قفزات في الأسعار لم تشهدها من قبل، لدرجة أن معدل التضخم قفز لأكثر من 420% في شهر يونيو/ حزيران الماضي، وهو من أعلى المعدلات في العالم.
وفي الوقت الذي كان فيه بنك السودان المركزي يعاني شحا شديدا في النقد الأجنبي ويواجه صعوبات في تدبير عدة ملايين من الدولارات لتمويل واردات حليب الأطفال والأدوية، كان "حميدتي" يعلن عن تبرع المؤسسة العسكرية بمليار دولار من أموالها الخاصة للموازنة العامة، علما بأن هذا التبرع يقارب ثلث ميزانية السودان الرسمية لعام 2019.
في الوقت الذي كان فيه البنك المركزي يواجه صعوبات في تدبير ملايين الدولارات لتمويل واردات حليب الأطفال والأدوية، كان حميدتي يتبرع بمليار دولار للموازنة العامة
وانضم عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، إلى مطالب الحكومة المدنية والقوى الثورية المطالبة بإقصاء الجيش عن البيزنس والصفقات والأنشطة الاقتصادية، حيث أكد مرات على رغبة حكومته في تحويل الشركات المملوكة للجيش إلى شركات مساهمة عامة يمكن للجمهور الاستثمار فيها وشراء أسهمها.
وشدد على أن "كل جيوش العالم تكون لديها علاقة بالاستثمار، لكن الاستثمار المتعلق بميزتهم التفضيلية، مثل الاستثمار في الصناعات الدفاعية، وهذا مهم ومشروع، لكن، كون المؤسسة العسكرية تستثمر في قطاع الإنتاج وتزيح وتحل محل القطاع الخاص، فهذا أمر غير مقبول" كما قال حمدوك.
بل وأعلن صراحة أمام الرأي العام أن مشاركة الجيش في شركات القطاع الخاص أمر غير مقبول، وأن مثل هذه الشركات يجب أن تتحول إلى شركات مساهمة عامة مملوكة للسودانيين.
ربما تكون خطيئة حمدوك أنه تحدث علناً عن ضرورة إقصاء المؤسسة العسكرية عن مجال البيزنس والصفقات، وأكد رفضه المطلق تدخل الجيش في الحياة الاقتصادية، ولو غض حمدوك الطرف عن هذا المطلب وغيره فربما كان سيحظى بحماية ودعم ومساندة أعضاء المجلس العسكري، لا الانقلاب عليه كما حدث اليوم الاثنين.
أما خطيئة حمدوك الفعلية فهي انبطاحه الشديد أمام صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الدائنة، وتطبيق اجراءات تقشفية عنيفة بحق المواطن، وهو ما أدى إلى حدوث قفزات في الأسعار وتهاوياً في القدرة الشرائية والعملة الوطنية.