رغم رسائل الطمأنة التي حرص مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) ووزارة الخزانة والبيت الأبيض على إرسالها للمودعين خلال الأيام الأخيرة، فإنّ البنوك الصغيرة شهدت اضطرابات حادة، وسط هروب جماعي من قبل المودعين، ما دعا مشرعين إلى مطالبة السلطات المالية بتدخلات سريعة تشمل رفع سقف ضمان الودائع أو إلغاء هذا السقف أساساً من أجل الحفاظ على استقرار قطاع بالغ الحساسية بالنسبة لأكبر اقتصاد في العالم.
وقد يكون انهيار ثلاثة مصارف في غضون 11 يوماً فقط خلال الشهر الجاري، مجرد بداية لانهيارات مفزعة خلال الأيام المقبلة، ولا سيما مع سيطرة ما يعرف بفكر القطيع على تحركات المودعين في الأيام الأخيرة.
ووفقاً للبيانات الصادرة عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يوم الجمعة الماضي، انخفضت الودائع في البنوك الصغيرة بقيمة 120 مليار دولار، في الأسبوع المنتهي يوم 15 مارس/آذار الجاري، بينما ارتفعت في 25 مصرفاً كبيراً بنحو 67 مليار دولار.
وسجلت ودائع البنوك الأميركية بشكل عام أكبر انخفاض في نحو عام، إلى 17.5 تريليون دولار في الفترة المذكورة، بالتزامن مع الانهيارات التي سجلها القطاع المصرفي وطاولت بنوك "سيليكون فالي" و"سيغنيتشر" و"فيرست ريبابليك".
ودفعت عمليات سحب الودائع من البنوك مسؤولين في مجلس مراقبة الاستقرار المالي إلى مناقشة الأمر خلال اجتماع مغلق عقدته وزيرة الخزانة جانيت يلين ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، إلى جانب 10 مسؤولين آخرين، الجمعة الماضي، بحسب ما أوردته شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
ورغم القلق الذي يسيطر على المودعين حيال أزمة انهيار المصارف، قال رئيس البنك المركزي في أكثر من مناسبة خلال الأيام الماضية إنّ "النظام المصرفي آمن" محاولاً طمأنة العملاء بشأن صلابة النظام المصرفي في أكبر اقتصاد في العالم.
لكنّ القلق يتزايد حيال ما يمكن أن تتسبب فيه انهيارات البنوك الصغيرة من موجات رعب في الأسواق لا تقل عن الفزع الذي يمكن أن يسببه إفلاس بنوك كبرى. فرغم أنّ أكبر 25 بنكاً تمثل ما يقرب من ثلاثة أخماس حجم الإقراض في الولايات المتحدة، فإنّ البنوك الصغيرة تعد أهم موفري الائتمان في بعض المجالات الرئيسية بما في ذلك العقارات التجارية.
فسوق الإقراض العقاري التجاري الذي تبلغ قيمته 5.6 تريليونات، يأتي 70% منه من بنوك صغيرة ومتوسطة، إذ نما انكشاف البنوك الصغيرة على إقراض العقارات التجارية بمعدل متسارع على مدى الأعوام العشرة الماضية، وفق تقرير لبنك الاستثمار "مورغان ستانلي".
وليست أزمة هروب الودائع وحدها هي ما تواجه البنوك الصغيرة وإنما تتصارع مع مشكلة أخرى لا تقل خطورة تتمثل في الأزمة الائتمانية التي تهدد وجودها. ومع ارتفاع تكاليف التمويل، ستخفض البنوك القروض.
وتبدو مشكلة القطاع المصرفي في هذه الفترة أكثر تعقيداً من أي فترة ماضية. فرغم استمرار المخاوف المحيطة بسوق الائتمان، فقد مضى صناع السياسة قُدماً في تاسع رفع على التوالي لأسعار الفائدة، الأسبوع الماضي، إذ يسعون إلى القضاء على التضخم الذي لا يزال جامحاً.
ورغم تأكيد "الاحتياطي الفيدرالي" في بيان، الجمعة الماضي، بعد اجتماع استمر يومين، أن "النظام المصرفي الأميركي سليم ومرن"، فإنه حذر من أن "التطورات الأخيرة من المرجح أن تؤدي إلى تشديد شروط الائتمان للأسر والشركات وأن تؤثر على النشاط الاقتصادي والتوظيف والتضخم، كما أن مدى هذه التأثيرات غير مؤكد".
وقالت الرئيسة التنفيذية لـ"سيتي غروب" جين فريزر، في مقابلة مع المؤسس المشارك لمجموعة كارلايل غروب، ديفيد روبنشتاين، في إحدى فعاليات النادي الاقتصادي في واشنطن، الأربعاء الماضي: "إنه تغيير كامل لقواعد اللعبة عما رأيناه من قبل". وأضافت فريزر، وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ: "كل ما هنالك أنه تم نشر تغريدتين (في إشارة إلى أزمة بنك سيليكون فالي)، ثم حدث هذا الأمر بأسرع وتيرة في التاريخ".
وبعد انهيار "سيليكون فالي"، قدم البنك الفيدرالي أدوات دعم إضافية للمصارف التي تحتاج إلى السيولة. واقترضت البنوك ما مجموعه 165 مليار دولار، في علامة على ضغوط التمويل المتصاعدة. وقبل ضخ الدعم، كانت الأصول النقدية التي تحتفظ بها البنوك كحصة من إجمالي أصولها، قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها في ثلاث سنوات.
وأدت السرعة المفاجأة التي انهارت بها البنوك الثلاثة في غضون 11 يوماً فقط إلى حالة ترنح لدى المودعين والمستثمرين، ما دعا مشرعين ورجال أعمال بارزين إلى التحذير من أزمات أعمق حال عدم اتخاد إجراءات سريعة على غرار رفع سقف ضمان الودائع لدى البنوك عن القيمة أو إلغاء هذا السقف أساساً في ظل الظروف الحالية لتهدئة الأسواق والحفاظ على استقرار الودائع التي تقدر بنحو 17.5 تريليون دولار.
وعادة ما تضمن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع مدخرات تصل إلى 250 ألف دولار، وهو حد مرتفع بما يكفي لجعل معظم عملاء البنوك ينامون ملء جفونهم. لكن الضغوط الأخيرة التي تواجهها الصناعة المصرفية وضعت على الطاولة فكرة زيادة مؤقتة للحد الأقصى أو إلغائه.
ومن بين الذين يدافعون عن رفع سقف ضمان الودائع، الملياردير إيلون ماسك، أغنى أميركي والرئيس التنفيذي لشركتي "تويتر" و"تسلا"، الذي قال إن زيادة الحد "مطلوب تماماً" لوقف عمليات التهافت على البنوك لسحب الودائع.
وطُبق حد ضمان الودائع لأول مرة عام 1934 في محاولة لتهدئة الذعر الذي انتاب المصارف في العام السابق له، وبدأ التأمين الفيدرالي على الودائع بحد أقصى 2500 دولار، أي ما يعادل نحو 56 ألف دولار حالياً.
ووفقاً للمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، فقد كان ذلك بمثابة "نجاح فوري في استعادة ثقة الجمهور واستقرار النظام المصرفي". وشهد الحد الأقصى للودائع المؤمن زيادة بنحو سبع مرات، كان آخرها خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 إلى 250 ألف دولار.
وتتطلب زيادة حد مؤسسة التأمين الفيدرالية موافقة الكونغرس، وهي عقبة كبيرة في عصر الانقسامات السياسية العميقة، إذ يعارض بعض المشرعين المحافظين بشدة أي زيادة في حد التأمين الذي تقدمه المؤسسة الفيدرالية لضمان الودائع، منهم السيناتور جوش هاولي، وهو جمهوري من ولاية ميسوري.
ومع ذلك، فقد أشار جمهوريون آخرون في مجلس الشيوخ إلى انفتاحهم على الفكرة، بينما يريد زملاؤهم من ديمقراطيين ربط الإجراءات المتعلقة بتأمين الودائع بقواعد أكثر صرامة للبنوك.
وكان لدى المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع حتى نهاية 2022 ما يزيد قليلاً عن 128 مليار دولار في صندوق تأمين الودائع الخاص بها، مما يدعم ودائع مؤمناً عليها يتجاوز حجمها 10 تريليونات دولار.
ويستقي صندوق تأمين الودائع تمويله إما من خلال الأقساط المحملة على البنوك المؤمن عليها، أو عن طريق الفوائد المكتسبة على الأموال المستثمرة في الأوراق المالية الحكومية الأميركية.