يبدو أن العقوبات التي أعلنت بريطانيا وعدة دول غربية، منذ أمس، فرضها على روسيا لن يكون لها انعكاسات سلبية على الاقتصاد الروسي فحسب، بل سترتد العديد من آثارها لتطاول أنشطة اقتصادية بريطانية، ما يؤثر بوضع المستهلكين وسوق التوظيف.
ورسم المحللون الذين يراقبون الأزمة الأوكرانية الروسية، مجموعة من السيناريوهات، وفق تدرج العقوبات وكذلك تطور الأزمة التي يتخوف من أن تصل إلى حد حدوث غزو روسي لأوكرانيا.
وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية كانت واضحة بأن بريطانيا لن تشارك مباشرةً في أي صراع عسكري في أوكرانيا، فإن التداعيات الأوسع لأي نزاع سيكون لها تأثير عميق بالاقتصاد البريطاني، بدءاً من الارتفاعات الكبيرة في أسعار البنزين والغاز، إلى احتمال وقوع هجمات إلكترونية والضربة المالية على أسواق لندن من العقوبات الغربية، حيث سيشعر الناس في المملكة المتحدة بتكلفة الصراع.
وبالفعل، بدأت تلوح هذه البوادر في المملكة المتحدة، حيث تراجعت أسواق الأسهم، فيما ارتفعت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ سبع سنوات، ويأتي ذلك وسط خلفية أزمة تكلفة المعيشة في البلاد.
تراجع المؤشرات الرئيسية في لندن
يتجلّى تأثير الأزمة الأوكرانية بوضوح في العاصمة البريطانية لندن. فقد تراجعت المؤشرات الرئيسية يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، بعد أن شعر المستثمرون بالخوف من تصعيد واضح في التوترات بين روسيا وأوكرانيا.
وتراجعت الأسهم وسط الأزمة، أمس، حيث انخفض مؤشر "فوتسي 100" بأكثر من 1.5% بعد الانخفاضات الشديدة التي شهدتها آسيا خلال الليل، قبل أن يقلص خسائره لدى الإغلاق عند 0.5%.
وفي لندن أيضاً، تراجعت الأسهم في شركة "بوليميتال" الروسية لتعدين المعادن الثمينة بنسبة 8.5%، وانخفضت أسهم شركة تصنيع الصلب الروسية "إيفراز" بنسبة 5.7%. وتدنى سهم شركة "كوكا كولا أتش بي سي"، التي تعتبر روسيا واحدة من 28 سوقاً تعمل فيها، بنسبة 4.5%.
وهوت شركة بتروبافلوفسك، وهي شركة تعدين للذهب مقرها لندن، ولديها أيضاً عمليات في روسيا بأكثر من 17%. وكان عمال المناجم في لندن الذين قد يتعرضون لعقوبات اقتصادية قاسية إذا غزت موسكو أوكرانيا الأسوأ أداءً في مؤشر "فوتسي 100".
تعليق خط أنابيب "نورد ستريم 2"
وأطاح قرار ألمانيا تعليق التصديق على تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" للغاز الروسي الذي يصل إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، آمال المستهلكين في انخفاض أسعار الطاقة.
ومع بدء اتخاذ إجراءات عقابية ضد موسكو بسبب تصاعد الأزمة الأوكرانية، ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا والمملكة المتحدة، أمس، وسط مخاوف من تعطل إمدادات الطاقة في جميع أنحاء القارة.
وقفزت أسعار الغاز الأوروبية المعيارية بنسبة 13%، بينما ارتفعت أسعار الغاز في المملكة المتحدة بنسبة 8%.
وعلى الرغم من أنّ المملكة المتحدة تحصل على معظم احتياجاتها من الغاز من بحر الشمال والنرويج، إلا أن أي صراع بين روسيا وأوكرانيا قد يعطل إمدادات الغاز في أوروبا، ويضر بخطوط الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
وإذا اختارت روسيا إيقاف الإمدادات لمعاقبة الغرب، يمكن أن يؤدي هذا الاضطراب إلى رفع سعر الغاز في أوروبا بشكل كبير، وبالتالي في المملكة المتحدة.
بدوره، اعترف بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، أن الأزمة يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز. وقال لمجلس العموم: "أحد مخاطر مشروع بوتين، احتمال حدوث ارتفاع في أسعار الغاز وأسعار النفط".
لكنّه تعهّد بأن تبذل الحكومة كل ما في وسعها للتخفيف من ذلك ومساعدة الناس في هذا البلد، لافتاً إلى أنّ هذا أحد الأسباب التي جعلت أوروبا الغربية بأكملها تضطر إلى إنهاء اعتمادها على النفط والغاز الروسي.
وقد وصل سعر خام برنت، وهو معيار قياسي دولي، إلى أعلى مستوى في سبع سنوات ليلامس 100 دولار للبرميل.
من جهته، حذر نادي السيارات الملكي، وهو شركة بريطانية لخدمات السيارات، من أن الأزمة ستدفع أسعار البنزين في المملكة المتحدة إلى الارتفاع أكثر بعد أن وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 149.12 بنساً للتر الواحد يوم الأحد الماضي.
وفي السياق، قالت شركة كابيتال إيكونوميكس للاستشارات، إن التأثير الأكبر من المرجح أن يأتي من خلال أسعار السلع الأساسية، وقد يكون السيناريو الأسوأ هو أن يصل سعر النفط إلى 120 و 140 دولاراً للبرميل وأن يقفز الغاز إلى مستويات أعلى، ما يضيف نحو نقطتين مئويتين إلى التضخم الرئيسي في الاقتصادات المتقدمة هذا العام.
تداعيات محلية في بريطانيا
ورأى محللون وخبراء أنّ العواقب المحتملة على المواد الخام الرئيسية، هي ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير، لما لأوكرانيا وروسيا معاً من ثقل كبير في تجارة القمح والذرة وزيت عباد الشمس العالمية، ما يترك المشترين من آسيا إلى أفريقيا والشرق الأوسط عرضة لارتفاع أسعار الخبز واللحوم إذا تعطلت الإمدادات. وهذا من شأنه أن يضيف إلى تكاليف السلع الغذائية التي هي بالفعل الأعلى منذ عقد.
ولا شك في أن أي محاولة من جانب المملكة المتحدة لقطع مصادر الدخل عن بوتين سيكون لها آثار غير مباشرة على الصناعات البريطانية والأوروبية. حتى الآن لم توضح الحكومة عن عمد كيف ستبدو حزمة العقوبات بالضبط، لكن المصادر الحكومية واضحة، أنه لا يمكن فرض مثل هذه العقوبات من دون تداعيات محلية كبيرة أيضاً.
قيمة الصادرات والواردات بين المملكة المتحدة وروسيا
في عام 2021، احتلت روسيا المرتبة التاسعة عشرة بين أكبر الشركاء التجاريين للمملكة المتحدة، حيث استحوذت على 1.3% من إجمالي تجارة المملكة المتحدة، وفقاً للأرقام التي نشرتها وزارة التجارة الدولية الأسبوع الماضي.
وبلغ إجمالي التجارة في السلع والخدمات بين المملكة المتحدة وروسيا 15.9 مليار جنيه إسترليني في عام 2021، بزيادة 3.5 مليارات جنيه إسترليني أو 29% عن العام السابق، عندما تأثرت التجارة كثيراً بجائحة فيروس كورونا وتدابير الإغلاق المرتبطة بالحد من انتشار الوباء على مستوى العالم.
من بين جميع صادرات المملكة المتحدة إلى روسيا في عام 2021، كان 2.6 مليار جنيه إسترليني (62%) عبارة عن سلع و1.7 مليون جنيه إسترليني (38%) خدمات.
وفي ما يتعلق بواردات المملكة المتحدة من روسيا، كانت 10.8 مليارات جنيه إسترليني (93.2%) سلعاً، بينما كانت 793 مليون جنيه إسترليني (6.8%) خدمات.
وكانت قيمة واردات المملكة المتحدة من روسيا أكبر بكثير، 7.3 مليارات جنيه إسترليني على وجه الدقة من قيمة الصادرات من المملكة المتحدة إلى روسيا.
ويعتمد الكثير من الوظائف على نشاط الصادرات من روسيا وإليها، ففي عام 2018، دعم نشاط التصدير في المملكة المتحدة بشكل عام وظائف 6.8 ملايين شخص، مع دعم الصادرات إلى روسيا وحدها نحو 94.5 ألف وظيفة، وفقاً لتقديرات وزارة التجارة الدولية.
وفي المقابل، استفادت روسيا أكثر في العام ذاته، حيث دعم نشاط التصدير في روسيا 14.1 مليون شخص، مع دعم الصادرات إلى المملكة المتحدة نحو 356.4 ألف وظيفة.
عقوبات على الشركات والأفراد الروس
وكانت الشركات البريطانية في روسيا، تراقب بحذر، الثلاثاء، تأثير التهديد على أعمالها، عقب فرض رئيس الوزراء بوريس جونسون عقوبات على روسيا، تشمل تجميد أصول خمسة بنوك روسية كبرى وثلاثة أفراد من أصحاب الثروات العالية، وتهديدها بقطع وصول الشركات الروسية إلى الدولار والجنيه الإسترليني، ومنعها من جمع رأس المال في لندن، وفضح ما يسميه جونسون "الدمية الروسية" لملكية العقارات والشركات.
ومن المقرّر أن تستخدم التشريعات الأخيرة لفرض قيود على الأشخاص والمنظمات المرتبطة بروسيا، حيث منح التشريع الحكومة صلاحيات لفرض عقوبات على الشركات والأفراد الروس في القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل الصناعات الكيميائية والدفاعية والاستخراجية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات المالية. وتقول مصادر حكومية إن العقوبات "ستُشدَّد" في حالة التوغل الروسي في أوكرانيا.
ومن المتوقع أن تكون إجراءات الاتحاد الأوروبي، التي من المقرر إعلانها لاحقاً، أكثر صرامة. وتستعد بروكسل لفرض عقوبات مالية على روسيا، بما في ذلك حظر تداول سندات الدولة الروسية.