على الرغم من الخلافات السياسية والإيديولوجية الواضحة بين البلدين، تتشابه إلى حدٍ كبير الحالة الاقتصادية التي تمرّ بها كل من تركيا ومصر، وبصورة خاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلا أن تعاملات النظامين مع الأزمات المتشابهة جاءت مختلفة تماماً، وساهم في توسيع الفجوة بينها اختلاف الخبرات الاقتصادية التاريخية التي مرّ بها البلدان في العصر الحديث، تماماً كما كان الحال في الشأن السياسي.
ومع الأخذ في الاعتبار أن الاقتصاد التركي حالياً، سواء بقيمة الناتج المحلي الإجمالي الاسمية، أو تلك التي تأخذ القوة الشرائية للعملة وتكلفة المعيشة في الحسبان، يماثل ضعف الاقتصاد المصري تقريباً، يرى كثير من المحللين أن البلدين يعدان من الاقتصادات الواعدة، التي يمكن لها بإدارة جيدة وتخطيط سليم أن تصبح من أكبر اقتصادات العالم.
ويعاني البلدان عجزاً مزمناً في الميزان التجاري، وهو ما وضع عملتيهما تحت ضغوط كبيرة على فترات متقاربة خلال العقود الأخيرة. ويعتمد البلدان في أغلب الأحيان على إيرادات العملة الأجنبية من السياحة الواردة إليهما، لتعويض جزء من عجز الميزان التجاري، مع الأخذ في الاعتبار أن ما حصلت عليه تركيا خلال العقد الأخير من إيرادات السياحة يمثل تقريباً ثلاثة أضعاف ما تمكنت مصر من جمعه خلال نفس الفترة.
وتستورد تركيا ما تزيد قيمته عن قيمة صادراتها بنحو 30 مليار دولار، بينما يرتفع ذلك العجز إلى ما يقرب من 50 مليار دولار في الحالة المصرية، ويزداد وزنه لو أخذنا حجم الاقتصادين في الاعتبار.
وبعد أن ضرب وباء كوفيد-19 العالم، وتسبب في أوامر إغلاق واسعة النطاق، خسر البلدان نسبة كبيرة من إيرادات السياحة الواردة إليهما، فلم تتحصل تركيا إلا على 12 مليار دولار خلال عام 2020، مقارنة بأكثر من 34 مليار دولار جمعتها خلال العام السابق.
أما مصر، التي حققت إيرادات تتجاوز 12.5 مليار دولار من السياحة في عام 2019، فلم يدخل خزانتها أكثر من 3 مليارات دولار في أحسن التقديرات خلال العام الماضي.
تتنافس الدولتان في كثير من الأحيان على اجتذاب رأس المال الأجنبي للاستثمار في أدوات الدين التي تصدراها، سواء بالعملة المحلية أو الأجنبية، وفي أغلب الفترات تحتل إحداهما المركز الأول في قائمة أعلى فوائد مدفوعة، بينما تحتفظ الأخرى بمركزها ضمن أعلى خمس دول في العالم.
وبالفعل، لعبت الأموال الساخنة الواردة إلى البلدين دوراً كبيراً في توفير حماية مؤقتة لعملتيهما، بينما جعلتهما على صفيح ساخن عند تعرض الاقتصاد العالمي لأي صدمات تؤثر على تحركات رأس المال المخاطر، ومن ثم هروب الأموال من الأسواق الناشئة.
وخلال الأسابيع الأخيرة، تعرض اقتصادا الدولتين، وعملتاهما، لضغوط كبيرة، بعد ارتفاع معدلات العائد على سندات الخزانة الأميركية، رغم تأكيد مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" عدم وجود نية لرفع معدلات الفائدة على أمواله، قبل نهاية عام 2023.
ويعد فارق سعر الفائدة بين الدولار وعملة كلا البلدين المحرك الأساسي للأموال الساخنة التي تستثمر في أدوات الدين المحلية فيهما، وهو ما دعا محللاً مرموقاً للأسواق، هو روبين بروكس، كبير الاقتصاديين بمؤسسة التمويل الدولي، لتحذيرهما من هروب الأموال منهما مع الارتفاع في عوائد السندات الأميركية، ومؤكداً على ضرورة رفعهما لمعدلات الفائدة لديهما، وإلا تعرضت عملتاهما لخسائر كبيرة.
ومع كل التشابهات السابقة، وبسبب عمق/ سطحية التجارب العملية لواضعي السياسات الاقتصادية في البلدين، اختلفت سياساتهما خلال السنوات الأخيرة، فعمدت تركيا إلى منح الليرة حرية كاملة للتحرك وفقاً لمحددات العرض والطلب، واكتفى البنك المركزي المصري بإعلان تحرير سعر الصرف، بينما كانت أسعار العملة المحلية تتحدد يومياً من خلال اتصالات تليفونية بين مسؤوليه ومسؤولي أذرعه في السوق، وعلى رأسها البنوك المملوكة للحكومة المصرية، وبغض النظر عن حجم المطلوب والمعروض من الدولار، أو حجم الفجوات في الميزان التجاري والحساب الجاري في البلاد، والتي كانت سلبية، أي تعاني عجزاً، خلال أغلب فترات السنوات الماضية.
اختلاف السياسات أدى إلى تباين النتائج لدى الدولتين، فارتفعت العملة المصرية بنسبة 12% تقريباً خلال العامين الأخيرين، بدعم من البنك المركزي الذي اعتمد على القروض الخارجية في تنفيذ سياسته الخاصة بتحديد سعر عملته مقابل الدولار، فتسبب ارتفاع قيمة العملة (الزائف) في زيادة الدين الخارجي المصري بنسبة تقترب من 40% خلال الفترة.
أما العملة التركية، التي كانت ظروفها مطابقة لظروف العملة المصرية، فقد تسببت سياسة سعر الصرف الحر التي اتبعها البنك المركزي التركي في خسارتها 40% تقريباً من قيمتها خلال نفس الفترة، قبل أن يتسبب تغيير محافظ البنك المركزي التركي ناجي أغبال نهاية الأسبوع الماضي، مع ما صاحبه من مضاربات متعمدة من بعض المتربصين بالعملة التركية، في فقدان العملة 15% إضافية من قيمتها، بين عشية وضحاها.
تشير تصريحات محافظ البنك المركزي التركي الجديد إلى عدم وجود نية لديه للتسرع بإلغاء قرار رفع الفائدة الذي تم اتخاذه من المحافظ المعزول قبل أيام، رغم ما هو معروف عنه من تفضيل للفوائد المنخفضة.
وفي تعاملات أول أيام الأسبوع، استردت الليرة التركية جزءاً غير قليل مما فقدته من قيمتها، وفي تقديري، ستسترد المزيد خلال الأيام المقبلة، ولا يبدو أنها ستضطر في المستقبل القريب للاستعانة بالقروض الخارجية، التي انخفضت خلال العامين الماضيين بنسبة تقدر بحوالي 5%.
لم تحسم مدارس السياسات النقدية المختلفة أفضلية سياسة سعر الصرف الحر عن المدار أو العكس، لكن هناك قضية أخرى أكثر شمولاً وأقدم، تم حسمها، ولا يختلف عليها حالياً اثنان، وهي أن العرض والطلب من أي سلعة، أو عملة بالتأكيد، هما الأفضل في تحديد سعرها، وأن أي تدخلات في تحديد السعر بعيداً عنهما، لن ينتج عنها إلا تأجيل الوصول إلى السعر الحقيقي، مع إضافة الكثير من التكاليف التي يتم تحملها خلال فترة التأجيل، التي وإن طالت، فلا بد أن يكون لها من نهاية.