الكبدة الجملي في مصر.. وجبة شعبية تستحيل على الفقراء

24 اغسطس 2023
تراجع الإقبال على الكبدة الجملي بعد ارتفاع أسعارها (العربي الجديد)
+ الخط -

يغرق السكون شوارع مدينة كرداسة السياحية، الواقعة على بعد مسافة قصيرة من هضبة الأهرامات والمتحف المصري الكبير في الجيزة (غرب القاهرة). تغيرت المدينة بسبب الطرق الشاسعة التي تشق قلبها وأطرافها، بعد إزالة مئات الأفدنة المتبقية من أرضها الزراعية النادرة، لرصف محاور رئيسية وتشييد كباري تربط شرق العاصمة بغربها.

وتبقى المدينة الشهيرة بصناعة الملابس والخيام البدوية والسجاد اليدوي هادئة، عدا شارعها السياحي الذي تحول من مزار يرتاده الأجانب إلى سوق شعبي متسع شديد الزحام. على بعد مسافة قصيرة من المحلات السياحية اختار البائع "بلحة"، كما يلقبه أهالي المنطقة، دكانا لبيع وجبة "كبدة الجمل"، تلك الوجبة الشعبية التي يقبل عليها أهالي كرداسة والمناطق المحيطة بها.

ينادي بلحة على بضاعته، الشهية بفخر بأنها طازجة، ومن جمال عربية أصيلة قادمة من السودان. يطمئن المشترون إلى وجبة بلحة، حيث يرون بأعينهم كبد الجمل طازجة، وهو يحملها قادما من مجازر كرداسة والقرى المحيطة بها، يختارون القطعة المفضلة لهم، فيتناولونها ساخنة، على مرقد ناري من داخل صحن كبير، أو يصنعون منها "ساندوتش" إذا كانوا في عجلة من أمرهم.
يحلو للبائع أن يضرب بملعقته الكبيرة على طبق الطهي، ليسمع كل من حوله جرسا موسيقيا يجذب أنظار المارة القادمين من اتجاه السوق السياحي.

يضحك الرجل الثلاثيني عندما يداعبه المارة باسمه الشهير بين سكان مدينة مليونية، فيرد عليهم "أنا بلحة بتاع كبدة وعمري ما بعت البلح".

اشتهرت كرداسة طوال تاريخها الطويل بأنها منطقة قبائل عربية، تزرع أفضل أنواع البلح والتمور رغم أنها توسعت بالنصف الثاني من القرن الماضي، وزرعت على أطراف صحراء الأهرامات حدائق فاكهة غناء، تشتهر بجودة المانجو والبرتقال. يختفي بلح كرادسة الأفضل تدريجيا أمام جحافل الشاحنات العملاقة والجرافات التي تنفذ مشروعا للطرق الدائرية، أتى على ربع مساحة أراضيها ويزيل من أمامه آلاف المنازل والمدارس ويشق المساجد والمعارض الممتدة على شاطئ ترعة المنصورية والمريوطية التي تحيط بالمدينة من الجانبين.

يعتبر السكان أن مشروع الطرق الواسعة أتى لتأديبهم على مشاركة أهل المدينة بدعم حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، ووقوف بعضهم في مواجهة الشرطة، التي طاردت المتظاهرين. احتفظت الحكومة بمبنى الشرطة المحترق على حاله المتصدع منذ 10 سنوات، ليكون شاهدا على الخراب الذي أصاب الشارع السياحي، بما يثير مخاوف الغرباء، عندما يدفعهم الفضول إلى التوجه لمدينة كرداسة لتناول وجبات المندي العربية والتمتع بأكلات الكبدة الجملي.
بذكاء فطري وظف بلحة خبرته للحصول على موقع بديل لمحله الصغير الذي سيدخل عليه ترتيبات الطريق الجديد، وشارك عدد من أصدقائه في إقامة محل على مفارق الطرق المؤدية إلى جامعة القاهرة ومنطقة أهرامات الجيزة، ليظل ينادي بفخر على الكبدة الجملي.

جاءت أنواء التغيير بما لا يهواه بلحة، فما أن بدأ مشروعه الواعد إلا وقد هبت أمواج غلاء عاتية، تعددت على مدار العام، جعلت وجبة الكبدة الشعبية مستحيلة على الفقراء والطبقة المتوسطة.
يسابق البائع ومئات الباعة من أمثاله في تقديم وجبة الكبدة منذ ساعات الصباح الأولى، فالناس يشترونها لتناول الفطور أو عند الظهيرة، في وجبات سريعة بين ساعات الراحة من العمل أو التجول بالأسواق، وعصرا عندما يتوجهون إلى بيوتهم أو يجلسون على البسطات المفروشة بالسجاد اليدوي، فتكون وجبة عائلية يصنعها من الكبدة المغموسة بدهن سنام الجمل والمخلوطة بالفلفل الحريف والخضروات الطازجة.

يستغل باعة الكبدة شهرة المنطقة بأنها ملتقى تجار الجمال الآتية من السودان والتي تربيها القبائل ذات الجذور العربية على بعد عشرات الكيلومترات. تصل مبيعات الجمال بسوق أبو رواش للجمال المتاخم لكرادسة إلى نحو 50 ألف جمل سنويا. ظل باعة الكبدة متمتعين برخص لحوم الجمال، حتى بدأت موجات الغلاء التي رفعت سعر كيلوغرام اللحم من 90 جنيها بالمتوسط إلى 320 جنيها حاليا.

لم يرتفع سعر الكبدة من 160 جنيها للكيلوغرام إلى أكثر من 350 جنيها فقط، بل شحت مواردها، بعد اندلاع الحرب في السودان (الدولار = نحو 31 جنيها). أصبحت تجارة الجمال نادرة، فدفعت البائعين إلى مأزق خطير.
اعتاد شباب كرداسة والعمال والجمهور المار بالسوق أن يشتري "ساندوتش" الكبدة وزن ربع كيلوغرام بنحو 30 جنيها، الآن أصبح من المستحيل أن تجد الوجبة نفسها بسعر يقل عن 120 جنيها.
تفنن أصحاب المحلات في صناعة وجبات سريعة موازية لساندوتشات الكبدة، لوجود نقص شديد بها، دفع التجار إلى المبالغة في السعر وتوزيعها وفقا لأولوية الدفع والعلاقات الخاصة التي تربطهم بأصحاب المطاعم. لجأت بعض المطاعم إلى التلاعب بخلط أكباد الجاموس بوجبة الكبدة الجملي الشهيرة، والمخلص منهم يضيف للكبدة مزيدا من لحوم الكبد والدهون الخالصة لخفض الكلفة، لكن هذه الحيل تمر على الغرباء، بينما أهل كرداسة وهواة الوجبة الشعبية يعرفونها ويجرسون من يرتكبها بعنف.

تعاني كافة المحلات من تراجع الشراء وندرة العملاء بسبب الارتفاع الشديد في أسعار اللحوم وندرة المواشي. يشير مدير أحد المطاعم العربية الشهيرة إلى أن تراجع القوة الشرائية للأسر حال دون قدومها إلى المحلات، فمن كان يأتي مرات شهريا لا يعود الآن أكثر من مرة بالشهر، ومن كان يتناول وجبة الكبدة، أصبح يبحث عن وجبات شعبية أرخص وأقل بالكمية.

يلقي مدير المطعم باللائمة على تراجع قيمة الجنيه، مع انخفاضه المتواصل أمام الدولار، وندرة السائحين العرب، مشيرا إلى أن كثرة السودانيين واليمنيين اللاجئين بمنطقة الهرم، بعد أن كانوا مصدرا لتناول تلك الأكلات العربية، ساهمت الآن برفع أسعار إيجارات المساكن والمحلات، ولم تعد لديهم القدرة على تناول تلك الوجبات.
أدخلت محلات كرداسة وجبات السمان منذ سنوات، حيث تفنن الناس في صيده أثناء هبوطه بالمنطقة خلال رحلته الشتوية قادما من أوروبا إلى شمال أفريقيا والآن تحول إلى مشروع دواجن داخل البيوت كأحد المشروعات الصغيرة التي تعيل أسرا وتمد مطاعم بلحة وأمثاله بآلاف الأطنان من السمان شهريا. 

أصابت أسعار الأعلاف السمان بنيران الغلاء، فارتفع سعر السمان المشوي الواحد من 30 جنيها إلى 80 جنيها في عدة أشهر. ويدفع الغلاء المتواصل منذ أشهر ملايين المصريين إلى تخفيض وجباتهم وتعديل أساليب استهلاكهم بما يحرم 80% من تناول اللحوم بطريقة منتظمة شهريا، وجاء حرمان عرب كرداسة من وجبة الكبدة الشعبية مؤشرا إلى تدهور الحالة المعيشة للأسر البسيطة.

المساهمون