يمنح فتح ملف الفساد في قطاع الفوسفات وتعقّب أسباب تعطيل العمل فرصة جديدة لاستعادة القطاع الذي تكبّد خسائر خلال السنوات العشر الماضية، لا تقل عن 8 مليارات دولار نتيجة توقف العمل وتضرر الشركات الحكومية في هذه الصناعة بسبب مراكمة خسائرها وارتفاع الديون.
ويترقب التونسيون تقليص دور مجموعات ضغط الفساد في القطاع، في ظل مخاوف من ملاحقتهم قضائيا مع الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد. والملاحظ أن نشاط المغاسل وقطاع نقل المنتوجات إلى مصانع التحويل عاد للعمل، مؤخرا، بعد توقف دام لسنوات.
ونتيجة تكرر احتجاجات طالبي العمل في منطقة الحوض المنجمي كان المعتصمون يمنعون نقل المواد الأولية إلى مصانع التحويل عبر غلق السكة الحديدية للقطاع، فيما تتهم منظمات مهتمة بمكافحة الفساد بأن شخصيات نافذة كانت وراء ذلك التعطيل، بهدف الاستفادة من مناقصات نقل الفوسفات عن طريق الشاحنات التي تعمل لفائدة شركات خاصة تعمل في هذا المجال.
ويوم 12 أغسطس/آب الجاري أمر القضاء التونسي بالاحتفاظ بـ14 مشتبها بهم، وإدراج 3 آخرين في حالة الفرار في ملف استخراج الفوسفات ونقله، من بينهم وزير سابق وعضو بالبرلمان المجمد قبل أن يتم لاحقا الإفراج عن 8 منهم وإصدار بطاقات سجنية في حق المتبقين.
كذلك أعلن المتحدث الرسمي باسم الحرس الوطني إلقاء القبض على عضو البرلمان لطفي علي، الذي يملك شركات لنقل الفوسفات الذي يواجه تهما بالاستفادة في صفقات نقل يشوبها الفساد وتحقيق فائدة مستغلا نفوذه السياسي.
وقبل عام 2010 كان الفوسفات ينقل حصريا على قطارات شركة السكك الحديدية الحكومية، قبل أن تدخل شركات خاصة على الخط من أجل نقل الصخور المستخرجة إلى مصانع التحويل من محافظة قفصة نحو كل من قابس وصفاقس.
لكن إبرام عقود نقل الفوسفات عبر الشاحنات بدأ منذ 2011 وعلى نطاق أوسع، ليصبح النقل البري المسيطر على هذا النشاط، ويبلغ ذروته عام 2019 بعقد صفقات نقل تبلغ 230 مليون دينار (الدولار = نحو 2.8 دينار)، وفق بيانات حصلت عليها "العربي الجديد" من مصدر مطلع.
وتولى مجلس إدارة شركة فوسفات قفصة النظر في طلبات العروض الواردة من قبل الشركات الخاصة واختيار الفائزين، بناء على احترام الشروط القانونية والفنية وتفاضلية الأسعار المقدمة.
ويعتبر عضو منظمة "أنا يقظ" (منظمة مدنية متخصصة في متابعة ملفات الفساد)، مهاب بن قروي، أن مكافحة الفساد في قطاع الفوسفات يجب أن تكون شمولية، معتبرا أن الفساد في نشاط النقل الذي تمت على ضوئه الإيقافات لمسؤولين في القطاع ليس إلا فرعا من فساد متشعب ينخر الشركة الحكومية وباقي أنشطتها.
وأكد بن قروي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن نشاط النقل عبر الشاحنات، واستفادة شركات من عقود مضخمة في هذا المجال، فرع من فروع فساد متعدد المظاهر في قطاع حيوي للبلاد، مشددا على ضرورة فتح تعقّب كل أشكال الفساد التي تسببت في توقف العمل، وإغراق الشركة في الديون والوظائف الوهمية التي أثقل كاهلت المؤسسة بكتلة أجور متضخمة دون أي عمل منجز للموظفين.
واعتبر عضو منظمة "أنا يقظ" أن مكافحة الفساد في قطاع الفوسفات قد يعيد الأمل لاستعادة القطاع لعافيته بعد مرحلة إنهاك استمرت عقدا من الزمن، غير أنه اعتبر أن مكافحة الفساد يجب أن تكون أكثر شمولاً.
وذكر تحقيق نشرته منظمة "أنا يقظ" عام 2018 أن شركات عضو البرلمان لطفي علي، الموقوف على ذمة قضية الفساد في قطاع الفوسفات، استفادت من عقود نقل بقيمة 23 مليون دينار.
لكن مصادر خاصة بـ"العربي الجديد" أكدت أن أكثر من 20 شركة تستفيد من نقل الفوسفات عن طريق الشاحنات، مستفيدة من غلق مسار القطار على السكة الحديدية من قبل طالبي العمل.
وذكرت ذات المصادر، والتي فضلت عدم كشف اسمها، أن أغلب هذه الشركات تتلاعب بعقود النقل، وتحصل على أموال أكبر بكثير من الكميات المحمولة من قبل عرباتها بتواطؤ مع شبكة فساد متشعبة داخل المؤسسة الحكومية.
وتحتاج الشركة لاستعادة توازناتها المالية إلى نقل 5 ملايين طن سنويا من المواد الخام إلى مصانع التحويل (الإنتاج النهائي)، غير أن عودتها إلى سباق الدول المصدرة تحتاج إلى إنتاج ما لا يقل عن 8 ملايين طن، بينما معدل الإنتاج في السنوات التسع الأخيرة يراوح بين 2.5 و3.5 ملايين طن.
وتمكنت شركة السكك الحديدية خلال الشهر الأخير، من استعادة سكة القطار الرئيسية لنقل المواد الخام بعد غلقها من قبل المحتجين لسنوات طويلة.
وجرت إعادة تشغيل الرحلات على الخط الحديدي رقم 13 الذي يختصر المسافات بين مغاسل الفوسفات ومصانع التحويل، ويزيد من كميات المواد الخام المنقولة يوميا.
قفصة، معقل مناجم الفوسفات في تونس، تشهد منذ عشر سنوات تعطلاً مستمراً للإنتاج بسبب الاحتجاجات المتكررة من قبل مطالبين بالتوظيف في البلد الذي يشهد ارتفاعا في معدلات البطالة.
ويرى الخبير الاقتصادي محمد منصف الشريف، أن الطريق لا يزال طويلاً من أجل استعادة قطاع الفوسفات لعافيته بعد دمار كبير لحقه وإغراق المؤسسة في الديون والوظائف الوهمية، معتبرا أن مكافحة الفساد داخل القطاع تساعد على العودة السريعة لقطار الإنتاج على السكة الصحيحة.
قفصة، معقل مناجم الفوسفات في تونس، تشهد منذ عشر سنوات تعطلاً مستمراً للإنتاج بسبب الاحتجاجات المتكررة من قبل مطالبين بالتوظيف في البلد الذي يشهد ارتفاعا في معدلات البطالة
وأضاف الشريف في تصريح لـ"العربي الجديد" أن ضرب شبكات الفساد يقلل خسائر القطاع، ويمنح جرعة أكسجين للمؤسسات الحكومية والأنشطة المرتبطة بقطاع الفوسفات، ومنها الصناعات التحويلية والنقل الحديدي.
وقال إن الاقتصاد التونسي يدفع غاليا ثمن الفساد في قطاعات حيوية، في وقت تقترض البلاد لسداد الأجور وتقارب نسبة الدين العام الـ92% من الناتج الإجمالي المحلي للبلاد.
وبعد أن كانت الدولة مصدرة لمشتقات الفوسفات، تحولت إلى مستورد في فبراير/شباط الماضي، بسبب نقص الكميات المحولة من المواد المنجمية الخام لمعامل الإنتاج.