في 24 شباط/ فبراير 2022، شنَّت روسيا غزواً عسكرياً واسع النطاق على جارتها أوكرانيا واضعة نصب عينيها الاستحواذ على العاصمة كييف سعياً لإعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي دون الاكتراث للعقوبات الاقتصادية الغربية ولا لموقف المجتمع الدولي.
وبالحسابات، ستكون الفاتورة العسكرية لهذه الحرب هي الأغلى في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحافل بحروبٍ وجولاتٍ عسكرية تمتدّ من الشيشان إلى سورية.
وفقاً لدراسة أصدرها مركز التعافي الاقتصادي Centre for Economic Recovery بالتعاون مع شركة الاستشارات الإستونية Civitta والمنظمة الاستشارية المتخصصة في مجال السياسة العامة في أوكرانيا EasyBusiness في 28 شباط/ فبراير 2022 تحت عنوان "إيجاد طرق لدعم أوكرانيا وإنهاء الحرب في أوروبا"، قُدِّرت الخسائر العسكرية لروسيا بعد 85 ساعة من بدء الغزو بحوالي 7 مليارات دولار نتيجة تحطُّم طائرات هجومية بقيمة 2.465 مليار دولار ومروحيات هليكوبتر بقيمة 408 ملايين دولار، وتدمير 75 قطعة مدفعية بقيمة 117 مليون دولار، و191 دبابة بقيمة 452 مليون دولار، و816 عربة مدرّعة بقيمة 801 مليون دولار، وخسائر فادحة في صفوف العسكريين الروس بقيمة 2.746 مليون دولار.
وتتوقَّع هذه الدراسة أن تتجاوز التكاليف التي ستتكبَّدها روسيا يومياً عتبة الـ20 مليار دولار إذا طال أمد الحرب.
والحقيقة المثيرة للاهتمام هي أنّ معظم المعدات العسكرية الروسية يتم إنتاجها محلياً باستخدام المواد الخام المحلية، لذلك قد يتمكَّن بوتين من تغطية تكاليف الحرب من خلال طباعة الروبل دون الاهتمام بحدوث تضخُّم مفرط في ظلّ انقطاع تدفُّق العملات الأجنبية، أو على الأقل تراجعها في ظل العقوبات الغربية.
بحسب وزارة الدفاع الروسية، بلغ عدد الضحايا العسكريين الروس خلال الأسبوع الأول من الحرب في أوكرانيا حتى 2 آذار/ مارس 498 قتيلاً و1597 جريحاً، بينما تزعم أوكرانيا أنّ أكثر من 11 ألف جندي روسي لقوا حتفهم في هذا الصراع، فقد تعثَّرت القوات الروسية في تطويق مدينتي كييف وخاركيف في شمال أوكرانيا بسبب فشلها في تحقيق تفوُّق جوي خلال الأسبوع الأول من الحرب، الأمر الذي تسبَّب بحدوث خسائر كبيرة في الطائرات والمروحيات.
وفقاً لبيانات معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)، بلغ الإنفاق العسكري في أوكرانيا 5.92 مليارات دولار في عام 2020، أي حوالي عُشر الإنفاق العسكري لروسيا البالغ 61.71 مليار دولار في السنة نفسه.
وتنفق روسيا حوالي 10.5 بالمائة من ميزانيتها على القطاع العسكري، آملة أن تجني ثمار ذلك الاستثمار العسكري وتستعيد نفوذها على الساحة الدولية؛ يملك الرئيس بوتين الآن طموحات حثيثة للسيطرة على أوكرانيا نتيجة الفارق الشاسع بين إمكانات بلاده العسكرية وإمكانات جارتها، حيث تمتلك روسيا مليوني جندي احتياطي، 7571 مدفعاً، 30122 مركبة مدرّعة، 12420 دبابة، 544 طائرة هليكوبتر هجومية، و1511 طائرة مقاتلة.
بينما تمتلك أوكرانيا 900 ألف جندي احتياطي، 2040 مدفعاً، 12303 مركبات مدرّعة، 2596 دبابة، 34 طائرة هليكوبتر هجومية، و98 طائرة مقاتلة، وفقاً لبيانات معهد (SIPRI) وتقارير التوازن العسكري الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS).
بالرغم من أنّ أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، الأمر الذي يجعل التحالف العسكري الغربي غير ملزمٍ بالدفاع عنها، إلا أنّ تلك الاختلالات بالغة القوّة في تأثيرها وتُشكل كابوساً مروّعاً في الغرب الذي لم يتوان عن تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، حيث قدَّمت لها الولايات المتحدة حزمتي مساعدات عسكرية فورية بقيمة 60 مليون دولار و200 مليون دولار عندما حشدت روسيا قواتها على طول الحدود في أواخر العام الماضي، ثم منحت لها في يوم 26 شباط/ فبراير مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 350 مليون دولار لصدّ الغزو الروسي.
ومن جهتها، لم تتخلَّ دول أوروبا الغربية عن أوكرانيا وقدَّمت لها أسلحة بقيمة 450 مليون يورو ومعدات دفاعية بقيمة 50 مليون يورو، وإذا استمرّ الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا بشكل مكثَّف على المدى القصير سيتأخَّر حتماً الغزو الروسي عن جدول الكرملين وستكون الحرب مكلفة بشكل أكبر وسيزداد عدد الأصفار يمين رقم الفاتورة العسكرية التي تتحمَّلها روسيا.
من أهمّ المستفيدين من الحرب الروسية - الأوكرانية هم تجّار الأسلحة ومصانع السلاح، فقد ارتفعت القيمة السوقية للشركات التي تشعل هذه الحرب بالأسلحة، كشركة Rheinmetall التي تصنع المركبات العسكرية والأسلحة والذخيرة، وشركة Hensoldt التي تصنع أجهزة الاستشعار العسكرية، وشركة BAE Systems التي تعدّ أكبر شركة دفاعٍ في أوروبا.
وسارعت العديد من الدول الأوروبية إلى تخصيص المزيد من الموارد المالية لميزانية الدفاع، فقد قرَّرت ألمانيا في 27 شباط/ فبراير، إنفاق 100 مليار يورو إضافية لتحديث منظومتها الدفاعية في عام 2022، أي ما يعادل حوالي ثلاثة أضعاف ميزانيتها الدفاعية، حيث تهدف إلى زيادة إنفاقها العسكري السنوي من حوالي 1.5 بالمائة إلى 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024.
وقد يُحفِّز التهديد الروسي المتقاعسين الآخرين كإيطاليا وهولندا وإسبانيا على رفع نسبة الإنفاق العسكري إلى 2 بالمائة من إجمالي ناتجها المحلي، ومن غير المرجح أن يرتفع الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة بشكل حادّ كما يحدث الآن في أوروبا.
تعوِّل الولايات المتحدة الآن على المفعول التدميري للعقوبات الاقتصادية، ولكن حتى في أسوأ الأحوال ستجد روسيا مشترين آخرين لغازها ونفطها، خاصة في منطقة جنوب شرق آسيا، حتى لو اضطرت للبيع بأقل من أسعار السوق، وهناك أيضاً الصين التي وقَّعت على اتفاقيات في قطاع النفط والغاز مع روسيا بقيمة 117.5 مليار دولار، وبيلاروسيا وباكستان وغيرهما.
خلاصة القول، يدرك الغرب تماماً أنّ العقوبات لن يكون لها تأثير سياسي قوي على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يستطيع التعامل مع الألم الاقتصادي دون القلق بشأن الخسائر في صفوف العسكريين والمدنيين، والذي لن يتراجع عن عمليته العسكرية لأنّه متيقِّن من أنّه سيهنِّئ نفسه لاحقاً على إعادة أوكرانيا إلى فلك روسيا وسيطرتها وإشرافها، ومن المرجح أن يتجرَّأ على السعي وراء أهداف أخرى، فهذا هو الانتصار الحقيقي في نظره والصدمة الكبيرة للغرب، ووحدها التنازلات الكبيرة من جانب الغرب هي الكفيلة بتغيير مجرى الأحداث.