يمثل الغلاء واحداً من الأسباب الرئيسة التي تزيد معاناة التونسيين، بعدما عجزت الحكومات المتعاقبة عن السيطرة عليه نتيجة تعاظم سلطة الاحتكارات في مسالك التوزيع وتجارة الجملة. وتعلق شريحة واسعة من المواطنين آمالاً بانفراجة قريبة في الأسعار وتراجع معدلات الغلاء، فيما يعتبر خبراء اقتصاديون أنّ إعادة ترشيد الأسواق يحتاج إلى معالجة جذرية لأسباب التضخم الناتج أساساً عن صعوبات اقتصادية هيكلية.
ورأى الخبير الاقتصادي خالد النوري، أنّ لوبيات الغذاء في تونس استمدت قوتها خلال السنوات الماضية من ضعف أجهزة الرقابة الحكومية وتفكك آليات التخزين التي كانت تعتمدها البلاد منذ عقود. وأضاف النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" أنّ انفراط عقد التحكم في السياسات الغذائية الذي كان تحت رقابة حكومية مشددة تسبب في تعاظم دور مسالك التوزيع الموازية التي تسيطر على تجارة الجملة أيضاً.
وأمل الخبير الاقتصادي في أن تتمكن أجهزة الرقابة إخراج مخزونات مهمة من المواد الأساسية من مخازن المحتكرين وضخها في السوق، غير أنّ ذلك يظلّ غير كافٍ بحسب رأيه لكبح الأسعار من دون المعالجة الهيكلية المرتبطة بضعف القدرة على الإنفاق التي يعاني منها التونسيون عموماً.
وتوقع أن تظلّ مستويات التضخم مرتفعة في تونس وأن تلقي بظلالها على الأسواق والمقدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط نتيجة هبوط النمو الاقتصادي وارتفاع الديون الأجنبية وضعف احتياطي العملة الصعبة وزيادة كلفة الغذاء، لا سيما القمح والزيوت النباتية والسكر.
وكشفت البيانات الصادرة عن المرصد الوطني للفلاحة أنّ طفرات الزيادة في أسعار الخضروات تجاوزت 50 في المائة في بعض الأصناف خلال يونيو/ حزيران الماضي، إذ ارتفع سعر البطاطا 52 في المائة والفلفل 15 في المائة، كما زاد سعر فاكهة البطيخ 11 في المائة، وسمك السردين 11 في المائة.
وبيّنت الأرقام الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومي أنّ المواد الغذائية زادت خلال يونيو 7.2 في المائة، بسبب ارتفاع الخضر بـ 13 في المائة وزيادة أثمان الزيوت الغذائية 16.5 في المائة، إلى جانب تسجيل زيادة بـ 8 في المائة في الحليب ومشتقاته و7.6 في المائة في الأسماك و6.4 في المائة من اللحوم. عدد كبير من أصحاب الدخل المحدود في تونس محرومون منذ سنوات من اللحوم الحمراء والأسماك التي لم يعد حتى لمتوسطي الدخل القدرة على تحملها.
وهبط معدل استهلاك لحوم الضأن والبقر من 15 كيلوغراماً سنوياً قبل 10 سنوات إلى أقل من 6 كيلوغرامات حالياً. وبرزت في السنوات الأخيرة العديد من التحركات المجتمعية المطالبة بتأهيل القطاع الزراعي كصمام للأمن الغذائي في البلاد ووقف الفساد والاحتكار الذي ينخر هذا القطاع.
ومن أهم الدوافع لهذه التحركات غياب الرقابة من قبل الدولة ونقص الدعم بالنسبة لصغار المزارعين في مقابل احتكار الأعلاف من قبل كبار الشركات المستوردة وتفشي المضاربة بين كبار المنتجين والمستوردين.
وحمّل الرئيس التونسي قيس سعيّد، في لقاء جمعه برئيس منظمة رجال الأعمال سمير ماجول، المنظمة، مسؤولية الضغط على الأسعار ومساعدة المواطنين على تجاوز المرحلة الصعبة التي تمرّ بها البلاد.
وتضع المنظمات المدنية حماية التونسيين من الغلاء في صدارة المطالب المحمولة إلى سعيّد لمعالجتها. وقال المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مدنية) رمضان بن عمر، إنّ مكافحة الغلاء لا تحتاج إلى إعلان نوايا، بل إلى سياسات حكومية تعالج الأسباب العميقة للأزمة التي امتدت على سنوات وتُرك فيها المواطنون لمصيرهم في مجابهة المضاربين.
وأكد بن عمر في تصريح لـ "العربي الجديد" ضرورة وضع استراتيجيات بديلة للأمن الغذائي تقطع مع التوجه المحلي والعالمي الحالي الذي يتميز بهيمنة منطق التجارة الدولية والقيمة التبادلية المعتمدة على التسليع وهيمنة الشركات الكبرى على أدوات الإنتاج الغذائي بغاية تحقيق الربح الأقصى.
واعتبر بن عمر أنّ الدعوة التي توجه بها سعيّد للتجار لخفض الأسعار يمكن أن تجد استجابة، غير أنّ نتائجها ستكون ظرفية ولن تمتد طويلاً، مشدداً على معالجة جوهر المشكلة وضرب منظومات الاحتكار ومراجعة منظومات التوزيع.
وقال إنّ الحلول الجوهرية تتطلب تفكيك منظومات الاحتكار، وتقليص دور المحتكرين، ومراجعة السياسات الزراعية، وتحقيق السيادة الغذائية للبلاد. وتؤكد الأرقام الرسمية أنّ التبعية الغذائية للتونسيين في مجال الحبوب (المصدر الأساسي لغذاء التونسيين) أصبحت عالية جداً، إذ تشير البيانات في الفترة الممتدة ما بين 2008 و2018 إلى زيادة بأكثر من 57 في المائة من الحاجيات الاستهلاكية الموردة من الحبوب.
وتسبب إهمال قطاع الحبوب بمعضلة كبيرة تهدد غذاء التونسيين، نتيجة احتكار البذور والأدوية والمبيدات اللازمة للزراعة من قبل عدد محدد من الشركات التي تسيطر على كل الأنشطة المتعلقة بالحبوب من الإنتاج إلى الترويج والتصدير.