استمع إلى الملخص
- من المتوقع أن تؤدي الانتخابات إلى تغييرات كبيرة في توازنات القوى داخل البرلمان الأوروبي، مع توقعات بطفرة في تمثيل قوى اليمين المتطرف والشعبوي، مما قد يؤثر على السياسات الاقتصادية والخارجية للاتحاد الأوروبي.
- التأثيرات المتوقعة للانتخابات تشمل أيضًا السياسات الاجتماعية والبيئية، حيث قد يعيق صعود اليمين المتطرف تقدم الاتحاد نحو أهداف الحياد الكربوني ويغير مقاربته لقضايا الهجرة واللجوء، بالإضافة إلى التأثير على العلاقات الخارجية للاتحاد.
من المفترض أن تنتهي يوم الأحد المقبل عمليّة انتخاب 720 نائبًا في البرلمان الأوروبي، الذي يمثّل السلطة التشريعيّة الوحيدة في العالم العابرة للحدود الوطنيّة. وعلى مدى أيّام التصويت الأربعة، ستتم دعوة أكثر من 360 مليون ناخب أوروبي، وهو ما يجعل هذا الاستحقاق ثاني أكبر انتخابات إقليميّة في العالم، بعد انتخابات الهند التي انتهت آخر مراحلها يوم السبت الماضي.
لا يمكن التقليل من أهميّة النتائج التي سيفرزها هذا الاستحقاق، الذي سيفضي إلى إعادة تكوين توازنات القوّة داخل البرلمان، الممسك بصلاحيّة المصادقة على ميزانيّة الاتحاد الأوروبي ومراقبة الإنفاق. كما يملك البرلمان صلاحيّة انتخاب رئيس المفوضيّة الأوروبيّة، و26 مفوّضًا فرعيًا، ناهيك عن مشاركته في وضع التشريعات كمشرّع مشارك مع المجلس الأوروبي.
هكذا، سيكون لهذا الاستحقاق أثر حاسم على مستوى الاقتصاد العالمي في الاتحاد الذي ما زال يستأثر على 14.17% من حجم الناتج المحلّي العالمي، ما يجعله ثالث أكبر كتلة اقتصاديّة بعد الولايات المتحدة والصين. وبطبيعة الحال، ستكتسب هذه الانتخابات حساسيّة استثنائيّة الآن بالنظر إلى الأدوار الاقتصاديّة التي يلعبها الاتحاد حاليًا على مستوى الحروب التجاريّة وسياسات أمن الطاقة والعقوبات وغيرها من الملفّات الدوليّة الساخنة.
غير أنّ ما يميّز هذه المحطّة الانتخابيّة، مقارنة بجميع سابقاتها، سيكون التحوّل المرتقب في موازين القوّة داخل البرلمان. فهذه المرّة من المتوقّع أن يشهد البرلمان الأوروبي طفرة غير مسبوقة في تمثيل قوى اليمين المتطرّف والشعبوي، وهو ما سيغيّر توجّهات الاتحاد الاقتصاديّة والسياسيّة، بل وسياسته الخارجيّة أيضًا. ومن المعلوم أن هذه القوى تنقسم ما بين "كتلة المحافظين والإصلاحيين"، التي تنتمي إليها رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني، و"كتلة الهويّة والديمقراطيّة" التي ينتمي إليها حزب التجمّع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان.
لن تؤدّي هذه التطوّرات حتمًا إلى سيطرة اليمينيين المتطرّفين بشكل مطلق على البرلمان، حيث ستحافظ كتل أخرى على تمثيلها الوازن، ومنها قوى اليمين الوسط واليسار الوسط والخضر وأقصى اليسار وتكتّل الليبراليين. ومع ذلك، ستؤدّي هذه النتائج إلى دخول اليمين المتطرّف كلاعب أساسي في ملعب التسويات التي يجري عقدها تحت سقف البرلمان حول كل ملف وفق اصطفافات تتباين بحسب طبيعة القضيّة المطروحة.
بل ومن المتوقّع أن تساهم اندفاعة اليمين المتطرّف في تقريب قوى اليمين الوسط نحو طروحات أكثر شعبويّة، لمحاولة امتصاص موجة نزوح الناخبين باتجاه الأحزاب الأكثر تطرّفًا. وهذا ما ظهر أساسًا في أداء هذه القوى داخل البرلمان الأوروبي خلال الفترة الماضية. وبهذا المعنى، لن تقتصر تداعيات هذه الانتخابات على سطوة أحزاب اليمين الشعبوي والمتطرّف، بل ستشمل أيضا أداء ومواقف القوى اليمينيّة التقليديّة وربما الوسطيّة.
وستأتي هذه التطوّرات ضمن سياق صعود أحزاب أقصى اليمين في معظم المجتمعات الغربيّة. وهي ظاهرة باتت مدفوعة بفشل النخب السياسيّة التقليديّة في التعامل مع أزمات التضخّم وارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ النمو، بالإضافة إلى تلكّؤ الدول الأوروبيّة في المنافسة الصناعيّة مع كتل اقتصاديّة أخرى مثل الهند والصين. وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي كان عاملًا مساعدًا لتتخطّى الأحزاب الشعبويّة قيود الإعلام التقليدي، ولتصل للناخبين برسائل سياسيّة مبسّطة وسريعة وسطحيّة، وبمعلومات غير مُدقّقة.
تغذّت أحزاب اليمين الشعبوي في الغرب من الأزمات المتراكمة، لتجد ضالّتها في الخطاب الشوفيني والقومي، ولتضع نفسها حارسًا ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا في وجه "الآخرين". وهؤلاء الآخرون هم "الغرباء" من المهاجرين واللاجئين، الذين يتم تحميلهم، بحسب هذه الرؤية، مسؤوليّة تهديد استقرار أوروبا الاقتصادي، تمامًا كما يؤثّرون على انسجام شعوبها الاجتماعي والثقافي. من هنا، يمكن فهم النزعة العنصريّة، والمعادية للعرب والمسلمين في بعض الأحيان، التي تحملها معظم هذه الأحزاب.
لن يكون العرب وغيرهم من مواطني الدول النامية بمنأى عن التداعيات الاقتصاديّة لهذه التحوّلات. وأبرز هذه التداعيات ستطاول طبعًا مقاربة الاتحاد الأوروبي لملف الهجرة واللجوء. إذ حتّى هذه اللحظة ترفض أحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا "الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء"، الذي يضع آليّات معيّنة لإيواء اللاجئين الجدد وفق معايير قانونيّة واضحة، قبل فرزهم واستقبال جزء منهم وترحيل الجزء الآخر.
مقابل هذه الآليّة، التي تعتبرها قوى اليمين الشعبوي مقاربة "ليّنة للغاية"، تتبنّى بعض هذه القوى، مثل حزب التجمّع الوطني الفرنسي، فكرة إبعاد جميع اللاجئين والنازحين القادمين عبر الحدود، وبآليّة أوتوماتيكيّة لا تشمل درس ملفّاتهم. وبهذا الشكل، لا يأخذ هذا المقترح بالاعتبار وضعيّة البلدان التي سيعود إليها اللاجئون، ولا نوعيّة المخاطر السياسيّة أو الأمنيّة التي قد تحيط بعودتهم. وبعض أحزاب أقصى اليمين تطمح لتنفيذ أفكار شبيهة بتلك التي تبنّاها رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، المتحمّس لمشروع ترحيل اللاجئين إلى رواندا "مهما حدث".
على مستوى سياسات الطاقة، تُجمع أحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا على التشكيك بواقعيّة أهداف الاتحاد المناخيّة، كما تتشارك التصويب الدائم على الأثر السلبي لهذه الأهداف والتوجهات، من ناحية كلفة الطاقة والإنتاج. وهذا ما سيعني حتمًا إبطاء وتيرة ابتعاد الاتحاد عن مصادر الطاقة الأحفوريّة، وتأخير الوصول إلى أهداف الحياد الكربوني، بمجرّد تزايد سطوة أحزاب اليمين الشعوبي داخل الاتحاد الأوروبي.
مع الإشارة إلى أنّ سياسات الاتحاد البيئيّة عانت أساسًا من نكسات عدّة خلال الأعوام الماضية، بفعل ارتفاع كلفتها على المستهلكين والمزارعين والقطاعات الصناعيّة. وهذا ما مثّل أحد أسباب تزايد شعبيّة الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة، التي قادت حملات سياسيّة قاسية تستثمر سخط العديد من الشرائح الاجتماعيّة تجاه السياسات البيئيّة.
لهذه الأسباب، سيبقى الاتحاد معتمدًا لفترات أطول على صفقات الطاقة مع الدول المصدّرة للنفط والغاز، ومنها الدول العربيّة. ومن المهم التذكير هنا بتزايد اعتماد الاتحاد الأوروبي على مصادر الطاقة الأحفوريّة العربيّة، بعد العام 2022، إثر تضاؤل إمدادات الغاز والنفط الروسي. وفي النتيجة، سيكون الاتحاد أكثر بُعدًا عن تحقيق بعض أهدافه الاستراتيجيّة والسياسيّة، التي تقف خلف أجنداته البيئيّة، والمتمثّلة في تقليص الاعتماد على واردات مصادر الطاقة من الخارج.
ومن ناحية أخرى، يتبنّى جزء كبير من أحزاب اليمين المتطرّف مقاربات شديدة الانحياز لإسرائيل، وهو ما دفع حزب "البديل من أجل ألمانيا" مثلًا إلى تقديم مقترحات للبرلمان الأوروبي تدعو إلى وقف تمويل منظمة "الأونروا"، بعد عمليّة طوفان الأقصى.
أمّا زعيم حزب الرابطة الإيطالي ماتيو سالفيني، فوعد الإسرائيليين منذ العام الماضي بالسعي لنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة بمجرّد فوزه بالانتخابات. وبشكل عام، تنظر هذه الفئة من أحزاب أقصى اليمين الأوروبي إلى حزب الليكود الإسرائيلي كشريك سياسي ينتمي إلى المدرسة الإيديولوجيّة والفكريّة نفسها. وهذا ما ينسجم بدوره مع حذر هذه الأحزاب من الأفكار والظواهر الإسلاميّة في أوروبا.
لذلك، قد يكون من المتوقّع أيضًا أن تسعى هذه الفئة من أحزاب اليمين المتطرّف إلى استثمار وجودها داخل البرلمان الأوروبي لتضييق الخناق على المساعدات الموجهة للفلسطينيين. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ الاتحاد الأوروبي كان يتباهى في العادة بكونه "أكبر مقدّم للمساعدات الخارجيّة للفلسطينيين"، حيث بلغت هذه المساعدات حدود الـ1.2 مليار يورو خلال الفترة الممتدة بين 2021 و2024، بحسب أرقام المفوضيّة الأوروبيّة.
في الخلاصة، من المهم التأكيد على أن أحزاب اليمين الشعبوي منقسمة حاليًا إلى تكتلين رئيسيين، وهو ما قد يحول دون تعاونها في بعض الشؤون الاستراتيجيّة، مثل ملف العقوبات الماليّة على روسيا أو كيفيّة مقاربة العلاقة مع الصين. كما يتبنّى كل حزب، داخل كلّ من التكتلين، مقاربات قوميّة ووطنيّة خاصّة، وهو ما يعقّد مهمّة الوصول إلى برامج مشتركة على مستوى الاتحاد ككل. وهذا ما قد يجعل هذه القوى أقل قدرة على المناورة، مقارنة بسائر التكتلات الأوروبيّة الأكثر انسجامًا داخل البرلمان.