منذ عقدين من الزمن والعراق البلد الغني بالنفط يغرق في بحر من الفساد استنزف معظم إيراداته، ما دفع المواطنين نحو بئر عميق من الفقر، رغم امتلاك بلادهم ثروات هائلة.
ولا تُعد حادثة سرقة الـ 2.5 مليار دولار أميركي، من العائدات الضريبية للدولة العراقية، التي جرى الكشف عنها أخيراً، هي الأولى، بل إن مئات مليارات الدولارات سرقت وضاعت من بلاد الرافدين بطرق مختلفة منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003.
وبالرغم من قيام الحكومات المتعاقبة والسلطات القضائية بتشكيل اللجان التحقيقية العديدة ومذكرات القبض بحق المشتبه بهم في قضايا السرقة والاختلاس، فإن ديناراً واحداً لم يرجع إلى خزينة الدولة من المسروقات.
سرقة 450 مليار دولار
تفيد المعلومات التي تنشرها هيئة النزاهة وتتسرب من وثائق تتوفر لدى مجلس النواب، إضافة إلى تقارير صحافية بأن حجم الأموال التي خسرها العراق جراء الفساد، يزيد عن 450 مليار دولار، منذ الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003 ولغاية الآن.
وتختلف طرق الفساد، لا سيما أن الأحزاب المسيطرة على الحكومة ووزاراتها توجد عبر مسؤوليها وأعضائها في كل الأبنية الحكومية. وتكون عملية الفساد عن طريق صفقات استيراد وتصدير، أو عن طريق توفير الأغطية المالية للمشاريع الوهمية، واستخدام الفواتير والصكوك المزورة، إضافة إلى السرقة الواضحة، التي تجري عبر نقل المبالغ المالية الضخمة من الدوائر والبنوك الرسمية إلى حسابات بنكية خارج العراق، أو تحويلها إلى كتل نقدية كبيرة ويجري نقلها إلى إيران.
في عام 2015 أثار تصريح وزير النفط العراقي عادل عبد المهدي، في مؤتمر، بأن "موازنات العراق المالية منذ عام 2003 وليومنا هذا بلغت 850 مليار دولار، وفقدنا بسبب الفساد أكثر من 450 مليار دولار لا نعلم أين ذهبت؟ وأن هذا المبلغ متحصل من عائدات النفط العراقية فقط ولا نعلم أين ذهبت الأموال المتحصلة من الموارد الأخرى".
امتلاء جيوب المتنفذين
وبهذه الطريقة كانت نصف مبالغ الميزانيات المالية السنوية تذهب إلى جيوب المتنفذين الذين غالباً ينتمون إلى الأحزاب الحاكمة، إضافة إلى قادة الفصائل المسلحة التي تنشط على المستويين الأمني والسياسي. وهذا الملف هو أحد الملفات التي يتذكرها العراقيون، في حين أن ذاكرتهم تحمل الكثير من المصائب التي كان الحراك الاحتجاجي قد لخصها في احتجاجاتهم الشعبية التي تتواصل منذ عام 2011.
لم ينس العراقيون، صفقة الفساد التي استنزفت أموالهم ودماءهم، الخاصة باستيراد "أجهزة كشف المتفجرات" المزيفة التي استورد العراق منها نحو 6 آلاف قطعة عام 2007، ليتبين بعدها أن مسؤولين ينتسبون إلى وزارة الداخلية عقدوا الصفقة مع شركة بريطانية، بمبلغ تجاوز 400 مليون دولار. وتسببت هذه الصفقة بمقتل آلاف العراقيين جرّاء الاعتماد على الأجهزة التي ظهرت حقيقتها فيما بعد، وأنها لا تصلح لكشف أي نوع من أنواع المتفجرات.
وحتى عام 2016 خسر العراق نحو 150 مليار دولار بسبب صفقات تسليح القوات العراقية، والتي يُتهم فيها رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، بسبب شبهات الفساد فيها من جهة، وعدم وصول كل الأسلحة إلى العراق، بل إن تأكيدات شبه رسمية تشير إلى أن العراق استلم ربعها فقط.
فساد في الطاقة والتعليم
يمثل قطاع الكهرباء واحداً من أبرز الملفات التي أنفق العراق لأجل توفيرها نحو 30 مليار دولار، وفقاً لتقارير هيئة النزاهة العراقية، في حين لا يزال العراقيون يعانون من غيابها وتحديداً في فصل الصيف، وتصل ساعات انقطاع الكهرباء في معظم مناطق العراق، وتحديداً في البصرة، إلى 18 ساعة في اليوم الواحد، وهو ما فجّر احتجاجات شعبية لأكثر من مرة، وبرغم تعهد الحكومات بحل المشكلة فإنها تُعالج في الحقيقة، فيما تُتهم إيران بمنع تقدم العراق بهذا الملف في سبيل بقائه معتمداً عليها لتوفير الغاز الإيراني المخصص لتشغيل المحطات العراقية.
ويبقى ملف تهريب النفط هو الأكثر إثارة والأعقد من بين الملفات، كونه يمثل "الحصة الكبرى للأحزاب"، فقد كلف العراق نحو 150 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة الماضية فقط، وفقاً لتقديرات خبراء أفادوا بذلك لـ"العربي الجديد"، وتشترك فيها جميع الأحزاب بما فيها الحزبان الحاكمان في إقليم كردستان (الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني).
وبالنسبة لفساد قطاع التعليم وتحديداً في عام 2013، كشفت مصادر عن أن وزارة التربية العراقية متورطة بعملية تغيير تاريخ انتهاء شحنات من "البسكويت" المخصص لطلاب المدارس، ووعد البرلمان والحكومة بفتح تحقيق إلا أنه أغلق رغم أن الصفقة كانت بنحو 69 مليون دولار، وتشمل مواد مختلفة لصالح الأطفال، ويتورط في هذا الملف سياسيون وأعضاء أحزاب وموظفون في وزارة التربية العراقية.
ومنح العراق عام 2008، شركة إيرانية مشروع بناء 200 مدرسة من هياكل حديدية، بتكلفة تبلغ 280 مليار دينار (232.7 مليون دولار)، إلا أنه لم يُنفذ المشروع حتى الآن، بسبب خلافاتها على الأموال مع المقاولين العراقيين، الذين وصل عددهم إلى 18 مقاولاً، هرب غالبيتهم إلى خارج البلاد، في عهد نوري المالكي.
مزاد العملة الأكثر خطورة
أما مزاد العملة، وهو الملف الأكثر خطورة، كونه يوفر المساحة الكافية للأحزاب والتجار النافذين لتهريب الدولار إلى الخارج، وبحسب بيانات رسمية، فإن البنك المركزي العراقي باع منذ عام 2003 ولغاية الآن، أكثر من 400 مليار دولار عبر مزاده، فيما تفيد مصادر اقتصادية لـ"العربي الجديد"، أن "أكثر من 85 بالمائة من المبالغ المباعة لا تبقى في العراق، بل إنها تتسرب إلى خارج العراق، أو تتحول إلى عقارات ومطاعم وفنادق داخل العراق".
وخلال الحرب على تنظيم "داعش" الذي احتل مساحات واسعة من البلاد، قدر رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، عام 2017، كلفة الخسائر الاقتصادية خلال 3 سنوات من المعارك بأكثر من 100 مليار دولار، وبرغم الخسار المالية والبشرية، فإن الأحزاب القريبة من إيران عطّلت ملف التحقيق بسقوط الموصل، الذي دان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وشخصيات مهمة أخرى، مثل محافظ الموصل السابق أثيل النجيفي، وقيادات عسكرية وأمنية.
غرق أموال "المركزي" بالأمطار
وقد يكون ملف "غرق الأموال العراقية" هو الأكثر غرابة، حين تحدث محافظ البنك المركزي السابق علي العلاق، خلال استضافتِهِ في البرلمان العراقي، في نوفمبر/أيلول 2018، عن تلفِ سبعة مليارات دينار، جراء تعرض خزائن مصرف الرافدين لتسرب مياه الأمطار. لكن سرعان ما انشغل العراقيون بملف آخر، تمثل بالكشف عن حجم الخسارة من "الاستيلاء على عقارات الدولة"، فقد جرى الكشف عبر صحافيين وسياسيين عن مئات الملايين من الدولارات التي راحت من جراء السيطرة الحزبية والسياسية على أراض ومقار وبنايات تعود ملكيتها إلى الدولة، في أغلب مناطق العاصمة، يقدر ثمن البناية الواحدة بأكثر من مليون دولار، ويزيد عدد هذه البنايات والقصور والحدائق والمنتجعات.
في السياق، قال عضو البرلمان العراقي السابق، محمد اللكاش، إن "مئات المليارات من الدولارات سرقت من العراق، وضاعت ما بين دول الجوار وبنوك أوروبا، وتحولت إلى عقارات واستثمارات وشركات ضخمة، وكلها من جيوب العراقيين الذين لولا هذه السرقات الكبرى لكانوا من أهم مواطني المنطقة العربية، وكل ذلك حدث على مرأى ومسمع من الجهات الرقابية والسلطات القضائية، لكننا لم نسمع غير ما يؤكد تشكيل اللجان التحقيقية التي يتألف أعضاؤها من الجهات نفسها المشاركة في الفساد والأحزاب التي استباحت العراقيين وأموالهم".
وأكد لـ"العربي الجديد"، أن "الفترات السابقة شهدت حديثاً استيراد فرق خاصة من الخبراء الدوليين لتقديم الدعم والمساعدة في التحقيق بملفات الفساد وكشف المفسدين واستعادة الأموال المهدورة والمهربة إلى الخارج، لكننا لا نعرف ماذا حل بهذه الفرق وما النتائج التي وصلت إليها".
وأضاف اللكاش أن "أكثر الفساد موجود فيما يُعرف بـ"المشاريع الوهمية"، التي صرفت لأجلها العراق مليارات الدولارات، وهي ملفات فساد كبيرة بجميع مؤسسات الدولة على مدى السنوات الماضية، لا سيما تلك التي خصصت لها الأموال في ظل الموازنات الانفجارية، لكن لم يظهر أثرها بسبب مافيات الفساد المتغولة في الحكومات العراقية المتعاقبة"، مقدراً أن "حجم الفساد أكثر من 500 مليار دولار، وأن بعض الجهات الرقابية والمتخصصة بمتابعة المشاريع متواطئة إن لم تكن متورطة".
دور الأحزاب والفصائل المسلحة
الخبير الاقتصادي محمد الشمري، بيَّن أن "الفساد المالي في العراق، من المواضيع الشائكة والمعقدة، لأنها ترتبط بأحزاب وفصائل مسلحة وجهات خارجية ودول جوار، وهناك تواطؤ حكومي وسياسي فيه، وكل ذلك يحصل على حساب المواطن العراقي الذي ينتظر أن تتحسن ظروف معيشته ومستوى الخدمات التي يطمح إليها"، معتبراً أن "محاربة الفساد تحتاج إلى إرادة سياسية، وهي غير متوفرة لحد الآن، كما أنه يحتاج إلى تعاون دولي وتشديد الرقابة على المصارف الأهلية والمنافذ الحدودية، وإدخال الأجهزة الأمنية على خط المتابعة، ومنها صلاحيات التصرف مع الأسماء المتهمة بالفساد".
ملف "غرق الأموال العراقية" هو الأكثر غرابة، حين تحدث محافظ البنك المركزي السابق علي العلاق، خلال استضافتِهِ في البرلمان العراقي، في نوفمبر/أيلول 2018، عن تلفِ سبعة مليارات دينار
وأكمل الشمري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الخسارة الاقتصادية في العراق، لا ترتبط بالجانب الاقتصادي فقط، بل إنها خسارة شاملة على كل المستويات، فهي مرتبطة بحياة العراقيين ومدى تقدمهم إلى جانب شعوب العالم، ناهيك عن كون هذا الفساد قد أثر في الجوانب الاجتماعية ومنها انتشار المخدرات، بفعل تفشي البطالة وظواهر مثل الانتحار"، مشيراً إلى أن "العراق يشهد إقصاءً وتحييداً لكل مسؤول يحاول إيقاف هدر المال، بالتالي فإن السلاح يمنع انتهاء الفساد المالي".
ويقول رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، لـ"العربي الجديد"، إن "معدلات الفساد المالي في العراق، تفوق ما يُعلن عنه في الصحافة والتقارير الرسمية وشبه الرسمية، جرّاء تغوله وتفرعه وتمكّنه من جوانب العمل الحكومي والمؤسساتي في الدولة العراقية، بالتالي فإن هذه الأموال راحت، والتفكير باسترجاعها وارد، لكنه صعب"، مؤكداً أن "الإفلات من العقاب هو السمة الواضحة في التعامل الحزبي والسياسي مع موارد الدولة، كون الأحزاب تسيطر على كل شيء تقريباً، وتحوّلت معظم عمليات السرقة إلى عادة حزبية، بل إن الأحزاب التقليدية باتت تعتبر أن نهب أموال الدولة العراقية يندرج ضمن الحصص والاستحقاقات السياسية والانتخابية".
وفي وقتٍ سابق، قالت منظمة الشفافية العالمية في تقرير إن العراق يقبع في المرتبة السادسة عربياً والـ13 عالمياً بـ168 نقطة في أكثر دول العالم فساداً متقدماً على فنزويلا وبوروندي.