ربما نعرف جميعًا المثل الإنكليزي الشهير "يمكنك أن تقود الحصان إلى الماء، لكن لا يمكنك أن تجبره أن يشرب"، لكني أعتقد أن المسؤولين المصريين أولى من غيرهم بمعرفته؛ فلمصر عبر أكثر من نصف قرن تجربة طويلة مع التأكيد المتكرر المؤلم للمثل المذكور، على عدة جبهات، لكن واحدة من أكثرها وضوحًا وتواترًا، بتواتر مشاريع وتصريحات حكوماتها المتتالية، وهي الجبهة المُزدوجة لجذب الاستثمار الخاص -الأجنبي خصوصًا- من ناحية، ودفع عملية التحضّر للخروج من الوادي الضيق من ناحية أخرى، وهما جبهة مُزدوجة، وليسا جبهتين؛ لأنهما مترابطين أشد الترابط كحاجة ومشروع نظريًا، وكدعوى ثابتة وفشل مستمر تاريخيًا.
لهذا نجد لمصر تاريخا طويلا من قوانين ومحاولات جذب الاستثمار الأجنبي من ناحية، ومن التوسّع العمراني ببناء مدن جديدة من ناحية أخرى، وبفشل ثابت مستمر فيهما معًا، وإصرار -مثير للإعجاب حقًا- على تكرار ذات الممارسات دونما مراجعة لجدواها، أو مساءلة لمدى منطقيتها.
فطوال نصف قرن من محاولات جذب الاستثمار الأجنبي، لم يتجاوز صافيه منذ أواسط السبعينيات في أقصى ذُراه التاريخية 9.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2006، و6.7% منه عام 1979، و3.3% منه عام 2018 كأقصى نتيجة (إيجابية) لخفض سعر الصرف بتعويم 2016؛ مُستقرًا عند متوسط عام شديد التواضع عند مستوى 2.33% من الناتج الإجمالي لعموم الفترة 1975-2021.
أما على صعيد التحضّر، فأولاً لم تشهد مصر نموًا في مستوى تحضّرها عمومًا منذ أواسط ستينيات القرن الماضي؛ بشكل يعكس ركودها الاقتصادي وتراجعها الصناعي منذ نكسة يونيو والانفتاح الساداتي، وهكذا فبعد صعود معقول في التحضّر من %38 إلى 44% من السكان طوال عقد الستينيات وحتى أواسط السبعينيات، ظل راكدًا، بل وتراجع بشكل طفيف إلى 43%، ليستقر عند ذلك المستوى طوال نصف القرن المنصرم، والمنخفض كثيرًا عن المتوسط العالمي البالغ 56%.
وبطبيعة الحال امتد هذا الركود في التحضّر إلى فشل في سياسة التوسّع الحضري والخروج من الوادي التي اتبعتها الحكومات المصرية المتتابعة ببناء مدن جديدة منذ أواسط السبعينيات؛ حيث ظل معظمها خاويًا أو شبه خاو؛ نتيجة لغياب فرص العمل للحياة المستقرة بها، واستمرار المركزية الاقتصادية والإدارية في المراكز الحضرية القديمة؛ ما أحال تلك المدن الجديدة لمخازن عقارات؛ أسهمت بشكل معتبر في الملايين المُهدرة من الوحدات السكنية العاطلة بتلك المدن، والتي تجاوزت تقديراتها 2.5 تريليون جنيه، تلك المدن التي تراوحت نسب نجاحها في تحقيق مُستهدفاتها من المقيمين ما بين 3 و27% وفقًا لبعض التقديرات، وبمتوسط عام لم يصل إلى 10%.
وفي تقديرات أخرى، نجد حتى أقدم وأنجح المدن الجديدة التي جاوز عمرها الربع قرن، مثل العاشر من رمضان و15 مايو و6 أكتوبر والعبور والسادات، لم يتجاوز أفضلها، الثلاثة الأولى، 31.9% و44% و14.2% على التوالي، فيما لم تحقق الأخيرتان حتى 1% من مُستهدفاتها.
وهكذا فالخبرة المصرية مع استجلاب الحصان إلى المياه لم تخالف يومًا المثل الإنكليزي وتجعله يشرب بالضرورة؛ فظلّت الحكومات المتتابعة تضع القوانين والمشاريع لإغراء الاستثمار الأجنبي، وتبني المدن الجديدة لجذب السكان بعيدًا عن المركز المُتخم، دونما نتيجة جوهرية، وبخسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة، ومع ذلك لا تزال مصرّة على حرث البحر بتكرار ذات الاستراتيجيات التي أثبتت فشلها بثبات أقرب للوسواس القهري منه لأي منطق عقلاني معروف، ظانّةً أن الأمر سيختلف هذه المرة لمجرد أنها تكرّرها على نطاق أكبر بكثير.
لهذا لا يدعم المنطق الاقتصادي، فضلاً عن الخبرة التاريخية، مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، التي تمثّل بحق تجسيدًا لقضيتيّ "استجلاب الاستثمار الأجنبي" و"التحضّر خارج المركز"، معًا وفي ذات الوقت، فبينما يتم تصديرها كمشروع المستقبل الذي سيحل هذه المشكلات، يبدو الأمر تقديمًا للعربة أمام الحصان؛ فحل تلك المشكلات ابتداءً، بجذورها الكامنة في مساحات أخرى محظورة، هو الشرط الضروري الحقيقي لنجاح تلك العاصمة وما سبقها وشابهها من مشاريع.
ومن المُفارقات الغريبة في سياق تنفيذ مشروع العاصمة، والتي تؤكد غياب المنطق العلمي عن تخطيطها، أنها بينما تستهدف حسب المُعلن اجتذاب ستة ملايين مقيم للعيش بالمدينة المُخططة بمساحة تبلغ أربعة أضعاف العاصمة الأميركية واشنطن، فإنها بتصميمها الفعلي وبعيّناتها المُنفّذة، وبالتقديرات بتجاوز أرخص شقة سكنية بها 80 ألف دولار، تستهدف عمليًا شرائح شديدة الضيق في مجتمع يبلغ متوسط دخله الفردي 3700 دولار سنويًا بأسعار عام 2021، والتي بتعديلها -حسابيًا فقط- بفارق سعر الصرف بعد التعويمين الأخيرين خلال عام 2022؛ فإنه ينحدر إلى حوالي 2370 دولارا سنويًا؛ ما يعكس ليس فقط عدم الملاءمة الضرورية ما بين العرض والطلب، أو الانحياز الاجتماعي المُتضمّن في المشروع طبقي المضمون استعراضي الطابع، بل يعكس كذلك التناقض الذي سيحكم عليه بالفشل المُسبق، ما بين مشروطية نجاحه بالازدهار الاقتصادي وارتفاع مستويات الدخل، والاتجاهات الفعلية المعاكسة، بتدهور الأول وانخفاض الأخير، بسبب مُجمل سياسات الإدارة المصرية، بما فيها، وفي قلبها، تكاليف تمويله وما شابهه من مشاريع، تفوق طاقة الاقتصاد المأزوم فعليًا، وتُقتطع قسرًا من لحم المجتمع المُفقر، دونما مشاركة فعلية له في القرارات التي يتحمّل نتائجها وحده.
وهو التناقض الموازي اجتماعيًا، للتناقض الآخر اقتصاديًا، ما بين، من جهة، الإنفاق المهول على تطوير البنية التحتية بدعوى جذب الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، ومن جهة أخرى، الممارسات البيروقراطية المحاسيبية وشبه الإقطاعية التي تثبّط نفس الاستثمار الخاص، بل وتطرده من السوق أحيانًا، والسياسات المالية الضاغطة اجتماعيًا على الدخول والإنفاق، أي الطلب الاستهلاكي عمومًا.
وهكذا، فمن جهة الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية، لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بشأن نجاح المشروع عمرانيًا، خلافًا لما سبقه من مشروعات سابقة، بل إن المعطيات الاجتماعية من جهة الدخل المُتاح للإنفاق إنما تشير لمزيد من تعقّد الأمور، خصوصًا مع التراجع المُتوقع في دخول وتحويلات العاملين بالخليج خصوصًا، بما لهم من مكانة معتبرة في سوق العقار المصري.
فإذا افترضنا أن المصريين غير معنيين بالأمر، إلا كمُموّلين يدفعون الضرائب ويخسرون قوّتهم الشرائية عن يدِ وهم صاغرون، وأن الهدف هو اجتذاب الاستثمار الأجنبي ومواطنه الغربي للعاصمة التي تعطيه أخيرًا مظهر الـ"قطعة من أوروبا"، فإننا من جهة السياق الاقتصادي البحت، نصطدم مرةً أخرى بالأسباب الحقيقية، التي سُكبت فيها أطنان من الحبر، لعدم نجاح تلك المساعي لجذبه طوال أكثر من نصف قرن، والمُتعلقة ببيئة الاستثمار المحاسيبية الفاسدة هيكليًا ومؤسسيًا بالطبيعة والتصميم، و"بيروقراطية الإقطاعات" -إن جاز التعبير- المُتغوّلة على الاقتصاد الخاص والموارد العامة، فضلاً عن كافة مُستتبعات حالة "الاستقرار الاستبدادي" المُشوّه، من قوانين طوارئ وغياب المؤسسية والشفافية وضعف الثقة الشعبية بالحكومة وعدم وضوح واتساق السياسات العامة؛ ما وصل بمجموعه لمستويات شديدة الخطورة، بدأت تتجلّى مظاهره في هروب بعض رؤوس الأموال المحلية نفسها للخارج.
وبالنظر في تقارير ممارسة الأعمال، التي كان يصدرها البنك الدولي، احتلّت مصر في آخر تقرير منها عام 2020، المركز 114 من إجمالي 190 دولة شملها التقرير، وبإجمالي نقاط لمؤشرات التقرير 60.1 نقطة، بما يوازي بالكاد متوسط نقاط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما ينخفض عن الإمارات (80.9 نقطة) والمغرب (73.4 نقطة) والسعودية (71.6 نقطة) وعمان (70 نقطة) والأردن (69 نقطة) وقطر (68.7 نقطة) وتونس (68.7 نقطة)، وحتى بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء كرواندا (76.5 نقطة) وكينيا (73.2 نقطة)، ولا ننسى على سبيل المقارنة إسرائيل (76.7 نقطة).
وبغض النظر عن تحفّظاتنا على بعض مكوّنات التقرير المذكور، فإنه يظل ذا دلالات مهمة على مستوى التطوّر المؤسسي للدول، كما يعطينا فكرة عن مدى تأخر الموقع التنافسي لمصر بين الوجهات الاستثمارية المحتملة، ومحدودية فرصها في اجتذاب الاستثمار الأجنبي، الأمر الذي تؤكده المشاهدات العيانية والخبرة التاريخية على أيّة حال.
تبقى نقطة أخيرة مهمة، يجب أن تكون دائمًا في خلفية أذهاننا ونحن نفكّر في مسألة الاستثمار الأجنبي بعمومها، هي أن حركات رأس المال الدولي، وإن حرّكتها دوافع الربح بالطبع، فإنها لا تخلو من حسابات السياسة واعتبارات الاستراتيجية، ما تشهد به كافة التجارب التنموية في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما دفع الغرب في سياق الحرب الباردة برؤوس الأموال والتكنولوجيات المتقدمة للدول القائمة على مفاصل الصراع مع الاتحاد السوفييتي والمُهددة بثورات شيوعية، فاتحًا أسواقه الغنية لصادراتها، التي كان يتفنّن هو نفسه لاحقًا في كيفية إغلاقها عمليًا، بأساليب قانونية وفنية، أمام صادرات أغلب الدول النامية رغم دعاواه بحرية التجارة.
يعني ذلك أنه لو كانت لدى المراكز الرأسمالية الغربية رغبة حقيقية ومصلحة استراتيجية في تطوير مصر، لما توانت عن الاستثمار الجاد بها وفتح الأسواق لها طوال نصف قرن كانت مصر خلاله طوع بنان تلك المراكز، دونما إرادة مستقلة أو دور إقليمي أو مشروع قومي يمثل تهديدًا؛ فالمطلوب هو أن تبقى مصر على الحافة دومًا، دونما تصنيع أو تقنية أو ثراء؛ لأن امتلاكها لكل ذلك، مُتشابكًا مع إمكاناتها الكامنة تاريخيًا، يقودها حتمًا لدورها المحتوم كقوة إقليمية كبرى، وقوة متوسطة على المستوى العالمي؛ الأمر الذي لا يتناسب مع ضرورات الهيمنة الأكثر استراتيجية، والتي لا تنفصل عن الحسابات الاقتصادية لرأس المال الدولي.
فلتأخذ مصر أمرها بيدها، ولتتخلّ عن تلك الأسطورة الاقتصادية المُكلّفة، التي تستنزف فيها الغالي والنفيس منذ عقود؛ أملاً بجذب استثمار أجنبي لن يأتي لمجرد مشاهدة أبراج أيقونية، أو بإغراء المواطنين لترك زحام الوادي الضيق ليستمتعوا بالشوارع الواسعة في مُدن خاوية من فرص العمل؛ فليست أيّة عاصمة جديدة ولا مُجمع مصانع بكاف بذاته لتحقيق أيّ من الهدفين، بل يبدأ الأمر بالتخلّي عن مركزيتها السياسية المُفرطة التي تخنق المشاركة الوطنية ونمو وتطوّر البلد ابتداءً، وبسياسات تحديثية حقيقية تحسّن الإطار المؤسسي للاقتصاد والدولة؛ فتحفّز المبادرات الشعبية وتخنق الاحتكارات المحاسيبية وتصفّي الفساد المؤسسي والتغوّل البيروقراطي، مُستهدفًة تعميق التصنيع المستقل وتوفير فرص العمل اللائق ورفع مستوى المعيشة؛ فعندها سيأتي الاستثمار الأجنبي من تلقاء نفسه طمعًا بالمكاسب من اقتصاد مُزدهر، وليس بعنجهية المُتفضِّل على محتاجين، كما سيترك المصريون المدن القديمة المُزدحمة إلى مدن جديدة أكثر براحًا، ربما يبنونها بمبادراتهم الخاصة.