استمع إلى الملخص
- تشهد السعودية تطورات في السياحة تشمل الفعاليات الرياضية والمهرجانات، واستثمارات في السياحة الدينية والترفيهية مثل نيوم وLine، مما يثير تساؤلات حول جدوى هذه الاستثمارات في ظل التحديات الاقتصادية.
- تؤكد د. شقم أن السعودية تسعى لتمكين الشباب وجذب السياحة الدولية، مع تغيير الصورة النمطية للمملكة لتتوافق مع تطلعات الجيل الصاعد.
كان لي شرف المشاركة مع مستشارين آخرين اختارتهم الدكتورة دانا سعيد شقم عندما كانت تعد أطروحة الدكتوراه الموسومة "سياسات الدول السياحية والسرديات والجولات الطبيعية بهدف التأثير على السياسة الخارجية" وهي بالإنكليزية:State, Stories, and Sightseeing Tourism Policy and Narrative Control in Foreign Policy.
وقد أُجيزت الرسالة من جامعة ماكماستر "Mc Master" الكندية يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2024. وقام منتدى السياسات الاقتصادية في عمّان بعقد ندوة قدَّمت فيها د. دانا شقم ملخصاً لرسالتها، وأهم النقاط الواردة فيها. وجرى حولها نقاش موسع حضرتُهُ شخصياً مع عدد من الشخصيات الدبلوماسية والسياسية الأردنية.
ويكتسب موضوع السياحة في المملكة العربية السعودية أهمية متزايدة مع الوقت. فهنالك تركيز كبير على السياحة والتغييرات المجتمعية التي يتحدث عنها كثيرٌ من المحللين في السعودية وخارجها. ورافقت فكرة التركيز على السياحة مظاهرُ كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر منح النساء السعوديات حريات أوسع في المشاركة في الفعاليات السياسية والاقتصادية والفكرية بدءاً من منحها رخص سياقة السيارات إلى إدارة شركات الأعمال، إلى المشاركة في المنتديات الفكرية، إلى حرية السفر وغيرها من الأمور.
وكذلك يتساءل المحللون عن الاحتفاليات الغنائية والفنية سواء كانت مهرجانات الأغاني أم السينما أم الحفلات بالمناسبات الكبرى كالأعياد، أو ما رأيناه مؤخراً من نجوم هوليوود في مهرجان الرياض وهم يلبسون آخر ما أنتجته دور الأزياء من ملابس وفساتين وعارضات وممثلات يتباهين بأبدع مما يجري في مهرجانات هوليوود وكان وبوليوود وغيرها. ويتساءلون ما الحكمة وراء هذا التغير الكبير؟
ورأينا من جملة التطورات الأخيرة في المملكة السعودية التركيز الكبير على الفعاليات الرياضية الإقليمية وبالأخص الدولية. وقد فازت المملكة من خلال "الفيفا"، أو الاتحاد االدولي لكرة القدم بتنظيم مباريات كأس العالم في العام 2034. وشاهدنا كيف قامت أندية كرة القدم في مدن السعودية المختلفة بشراء كبار اللاعبين المشهورين في العالم، لجذب الأنظار للمملكة وجعلها مركزاً كروياً مشهوراً.
ورأينا التوسع أيضاً في المسابقات الدولية الفردية، خاصة رياضة التنس والغولف. وما تزال المنافسة مستعرة في ما يخص التنس مع كل من دولتي قطر والإمارات. واستطاعت السعودية من خلال التعاون مع محطات تلفزة عالمية مثل محطة سي أن أن (CNN) الإخبارية أن تلفت النظر إليها في لعبة الغولف التي تستهوي عادة رؤساء الدول وكبار رجال الأعمال ومديري الشركات والمؤسسات الكبرى، حيث أصبحت هذه اللعبة ليست مجرد منافسة رياضية، بل منتدى غير رسمي لبحث القرارات والخطط والترتيبات بين اللاعبين الذين يجدون في متعة ممارسة هذه الرياضة تعظيماً لوقتهم باتخاذ قرارات هامة مع شركائهم أو قرنائهم أو منافسيهم. ومن الرياضات الفردية كذلك رياضة سباق السيارات مثل الفورمولا وان Formula One، وغيرها مما يزال العمل جارياً على تعميقها في السعودية بالمنافسة مع دول أخرى مثل الإمارات وقطر ومملكة البحرين.
وتمتد السياحة في السعودية بالطبع إلى السياحة الدينية حيث الحج والعمرة. وقد استثمرت السعودية المليارات من الدولارات من أجل إعادة بناء المرافق الدينية في المسجد الحرام، وتوسيع الأبنية المستخدمة للطواف حول الكعبة المشرفة، وتيسير رمي الجمرات في منى، وتوسيع الفناء وأماكن الإقامة حول الكعبة والمسجد الحرام، وفي غيرها من الأماكن مثل جبل عرفات، وفي المدينة المنورة، ومطار جدة. ويبلغ عدد المسلمين في العالم بحسب آخر التقديرات ملياري نسمة، منهم على الأقل الثلث أو (700) مليون مسلم قادر على الحج صحة وتمويلاً. وبموجب أرقام الحجاج المسموح لهم حالياً، يتطلب هؤلاء أكثر من 330 سنة ليؤدوا الفريضة، وكما يتم السماح بأداء العمرة طوال العام.
وتقوم السعودية ببناء مرافق هامة جداً على ساحل البحر الأحمر من أجل تشجيع السياحة هناك. ومنها مدينة نيوم وَمدينة Line، والتي يعاد تصميمها وتقليص المخططات الرئيسية لها. وهناك بالطبع مناطق كثيرة في السعودية مثل مدائن صالح، والمدن المحاذية لليمن مثل جيزان ونجران وغيرها مما يوفر مناطق هامة جداً للسياح.
ويتساءل البعض عن حجم الاستثمار في السياحة ومرافقها إذا كان مجدياً، أم أن الإنفاق على كل هذه الفعاليات سيكون مرتفعاً إلى الحد الذي سيرهق الموازنة العامة. ويرى البعض أن السباق مع الزمن مكلف أيضاً لأن المخططين سيجدون صعوبة كبرى في التوفيق بين الموارد المالية المطلوبة، والتي سيأتي معظمها عن طريق المبيعات النفطية. ويُتوقع أن تهبط إلى نصف قيمتها الحالية مع منتصف القرن. فهل ستتمكن المملكة من خلق مشروعات كبرى مجدية يجري تمويلها بالدولارات النفطية في زمن يصبح فيها الاعتماد على هذه الدولارات غير حاضر، وبكفاءة تجعل المشروعات الجديدة قادرة على سد تلك الفجوة التمويلية؟
السعودية ذات إمكانات هائلة كبيرة، وهي تنفق مليارات على المشروعات الطموحة فيها. ولكن يجب أن نتذكر أن مساحة السعودية البالغة حوالي مليوني كيلومتر مربع تخبئ في باطنها معادن وموارد تُحسد عليها. ولكنها لا تستطيع تحقيق الإنجازات المطلوبة إذا بقيت موسومة لدى كثير من سكان العالم بأنها محافظة دينياً إلى حد التزمت، وأنها دولة لا تتسامح مع النساء ولا ترحب بالأجانب، وأن موظفيها لا يتمتعون بإنتاجية عالية. فلنعترف أن التركيز الاستثماري في كل المجالات والقطاعات يجب أن يكون مصحوباً بتغيرات اجتماعية ثقافية سلوكية قادرة على إنجاز متطلبات التحول الاقتصادي الكبير والجاري العمل على تنفيذه.
وفي رأي الباحثة د. دانا شقم أن السعودية تسعى من وراء الاستثمار في السياحة إلى تغيير أمرين أساسيين، الأول هو فتح الباب على مصراعيه لتمكين ملايين الشباب فيها من المزج بين التقليد والمعاصرة بشكل يجعلهم متماهين مع لغة العصر. وقد قامت السعودية بإرسال ملايين الشباب إلى الدراسة في الجامعات الأجنبية لكي يطلعوا على حضارات العالم المختلفة، وتمكينهم من التفاعل معها، ومن أجل إعداد هؤلاء الشباب للإدارة العصرية المثلى للمشاريع الحديثة التي يجري العمل على إنشائها.
وأما الجانب الآخر المهم جداً، فهو أن كل هذه المشاريع ليست مقصودة لأهل السعودية وحدهم، علماً أن تشجيع السياحة الداخلية لكل الأغراض يوفر على الاقتصاد الكثير من النفقات الخارجية، ولكن الأهم هو جذب السياحة الدولية والإقليمية من كل العالم إلى أرض الحرمين. ولذلك إن السعودية مضطرة أن تعطي أوجهاً مختلفة لترضي الكثير من الزبائن إليها، فهناك من يأتي للسياحة الترفيهية، وآخرون يأتون للسياحة الدينية. إن هذه الازدواجية في المقاربة تتطلب تغيير الصورة النمطية عن المملكة العربية واستبدالها بصورة أكثر حداثة.
وقد سعت إدارة الأمير محمد بن سلمان للفصل بين الحركة الوهابية والحكم السعودي بعد شراكة طويلة. وهو قرار ليس بالسهل، ولكنه اتُّخذ، فالمجتمعات الدولية في أميركا وأوروبا لها وجهان، وجه سياحي متساهل، ووجه ديني انعزالي كالذي تمثله الإدارة الأميركية الجديدة. ويبدو أن كثيراً من دول العالم قد بدأت تتآلف مع فكرة الازدواجية.
الكثيرون قلقون على ما يجري في السعودية. ولكن الدكتورة الشابة دانا سعيد شقم خلصت إلى نتائج متفائلة بمستقبل المملكة، وبأن التغيير الحاصل فيها يتناسب لا مع أفكار الجيل السابق، بل مع أفكار الجيل الصاعد الذي يريد أن يحافظ على هويته من دون أن يجعل ذلك عائقاً أمام تفاعله مع العالم، ومن دون الإجحاف بالحقائق الاقتصادية الاجتماعية. لقد بات واضحاً أن استمرار النظم الريعية وفكرة أن الحاكم كسّاب وهاب، وأن إبقاء الحال على حاله لم تعد أفكاراً مقبولة. هذه عهود مضت، والتغيير هو سنة الحياة.