السودان والصندوق والدول الفاشلة

10 مارس 2021
تظاهرة سابقة في السودان-عمر اردم/الأناضول
+ الخط -

نظريا يمتلك السودان من الثروات الطبيعية والزراعية والبشرية والحيوانية ما يؤهله لأن يكون واحداً من أغنى دول المنطقة، لكن عمليا هو دولة بائسة حيث يعشش الفقر والبطالة وغلاء الأسعار والعشوائيات في كل مكان به، ويعيش مواطنوه ظروفا معيشية صعبة وأوضاعا اقتصادية بالغة السوء، بلد يسكن الفساد والمحسوبية والبيروقراطية كل ركن من أركانه الخضراء.
نظرياً أيضا يمتلك السودان من الإمكانات ما يجعله سلة غذاء العرب، وما يؤهله لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأغذية والقمح واللحوم والزيوت وغيرها، لكن عمليا هو دولة فاشلة حيث بات يستورد القمح من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي وغيرها من المناشئ، وخزائن بنكه المركزي خاوية من النقد الأجنبي والسيولة، وغير قادر على سداد ديونه الخارجية.
كما فشلت الحكومات المتعاقبة في استغلال موارد البلاد الهائلة والاستفادة من الثروة البشرية سواء في الداخل، أو في الخارج حيث يمتلك السودان جالية تقدر بنحو 6 ملايين مواطن بلغت قيمة تحويلاتهم لبلادهم 150 مليون دولار فقط في العام 2019، وكان من الممكن أن تمثل تحويلات هؤلاء الرافد الأول لموارد البلاد من النقد الأجنبي. 

وعقب اندلاع الثورة السودانية توقع الشباب المشارك بها أن تودع البلاد حالة الدولة البائسة الفقيرة، لكن ما تفعله الحكومة الانتقالية الحالية من سياسات تقشفية، وميل شديد إلى الاقتراض بشراهة، سيعمق تلك الحالة ويحول البلاد إلى دولة فاشلة بامتياز.
دولة ترهن قرارها السياسي والمالي والاقتصادي للدائنين الدوليين في ظل وجود حكومة تصر على الخضوع لابتزازات صندوق النقد والبنك الدوليين وتنفيذ شروطه ومطالبه حتى ولو عمقت الفقر في البلاد.

صندوق النقد لن يترك السودان إلا وقد تحول إلى دولة مدينة لا تعرف حكوماتها المتعاقبة حلا لأزمتها المالية سوى التوسع في الاقتراض، وفرض الضرائب، واغتراف ما في جيب المواطن

والنتيجة أن صندوق النقد لن يترك السودان إلا وقد تحول إلى دولة مدينة مسلوبة إرادتها الاقتصادية، دولة لا تعرف حكوماتها المتعاقبة حلا لأزمتها المالية والنقدية سوى التوسع في الاقتراض الخارجي، وفرض الضرائب، واغتراف ما في جيب المواطن من سيولة قليلة، والتسبب في انهيار عملته الوطنية، وإضعاف قدرته الشرائية، وإلقاء ملايين المواطنين في غياهب الفقر المدقع، والقضاء على الطبقة الوسطى صمام أمن أي مجتمع. 
قبل أيام اتخذت حكومة السودان الانتقالية قراراً خطيراً بتعويم الجنيه وخفض قيمته بنسبة تقارب 600% بين ليلة وضحاها، وبسرعة سارعت الجهات المسؤولة إلى التبشير بمزايا القرار واعتباره فاتحة خير على البلاد حيث يعقبها، كما قالت، استقرار مالي وتدفق النقد الأجنبي على البلاد بما يؤهل الحكومة لتدبير السيولة الدولارية المطلوبة لتمويل واردات الأغذية والقمح والأدوية والسلع الأساسية.
انتظر المواطن حدوث ذلك الاستقرار، وقبلها تلبية احتياجاته من السلع المستوردة ووقف جموح الأسعار وظهور السلع المختفية من وقود وغيرها.

لكن ما حدث كان العكس حيث ارتفعت بشكل حاد أسعار مختلف السلع، في البلد الذي يشهد بالأساس انفلاتاً في معدل التضخم هو الأعلى في العالم، كما اختفت الأدوية من الأسواق، وهو ما دفع الصيادلة الى تنظيم اضراب واسع يوم الاثنين الماضي اعتراضا على ذلك الشح في السلعة الاستراتيجية. 

لم يتوقف صندوق النقد عند خطوة تعويم العملة المحلية، بل سارع ليضرب على الحديد وهو ساخن حيث طالب الحكومة باتخاذ خطوات إضافية عقب تحرير سوق الصرف مثل إلغاء دعم الوقود من بنزين وسولار، وزيادة الضرائب والرسوم الحكومية، وزيادة تعرفة الكهرباء والمياه والمواصلات والاتصالات.
وربما يلحق بتلك الخطوات التقشفية بحق المواطن خطوات أخرى من عينة زيادة سعر الخبز، وخفض عدد العاملين في الجهاز الإداري بالدولة، وتجميد الرواتب وربما خفضها، وإلغاء مجانية التعليم والصحة.
سياسات الصندوق ستحول السودان من دولة بائسة إلى دولة فاشلة لأن سياسته معروفة، تعليمات مستديمة للحكومات المتعاقبة بزيادة الأسعار وخفض الدعم.

صندوق النقد يطالب السودان بإلغاء دعم الوقود، وزيادة الضرائب والرسوم الحكومية، ورفع تعرفة الكهرباء والمياه والمواصلات والاتصالات.

والنتيجة دخول البلاد والمواطن في حلقة مفرغة، اقتراض ثم اقتراض قروض جديدة لسداد الديون التي حل موعد سدادها، اغتراف ما في جيب المواطن وزيادة الضرائب والرسوم وتجميد الرواتب لسداد ديون أخرى. خير البلاد للخارج وأمواله توجه لصالح الدائنين الدوليين. 
لن يترك صندوق النقد السودان إلا وقد حوله إلى دولة فاشلة، والتجارب كثيرة، لننظر إلى حالة الأرجنتين مثلا التي أفلست مرات كثيرة وباتت الدولة غير قادرة على سداد ديونها الخارجية مرات.

المساهمون