على وقع أزمات مالية متراكمة، تعيشها السلطة الفلسطينية خاصة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فإنها تواجه مسارا قد يؤدي بها للانهيار، بحسب خبراء اقتصاد، في ظل شبه الجفاف لمصادر إيراداتها، فهل تنهار السلطة بسبب أزماتها المالية؟
تأتي المخاوف من تهاوي السلطة الفلسطينية، بعد اتهام رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية الاثنين الماضي، إسرائيل بأنها تمارس تدميرًا اقتصاديًا وماليًا بحق السلطة الفلسطينية، عبر نشر الحواجز والتفتيت الجغرافي، ومنع العمال من الوصول إلى أماكن عملهم، وإحكام السيطرة ومنع تنمية وتطوير المناطق المصنفة "ج" وفق اتفاقية أوسلو، والتي تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، مشيرا إلى أن الضفة الغربية تواجه أكثر من 700 حاجزٍ إسرائيلي عسكري.
وكانت وزارة الاقتصاد الفلسطينية قدّرت الخسائر الاقتصادية خلال الربع الأخير من العام الماضي، بنحو 2.3 مليار دولار، وهو رقم كبير مقارنة بحجم الاقتصاد الفلسطيني الصغير، إذ بلغت نسبة الضرر الذي لحق بالمنشآت الاقتصادية قرابة 29 بالمئة ما بين توقف بشكل كامل أو جزئي عن العمل في الضفة الغربية، وذلك بفعل القيود الإسرائيلية، بالإضافة إلى 7 بالمئة من المنشآت الاقتصادية التي تضررت أصولها "المباني والمعدّات والبضائع" بفعل التخريب الذي يفعله الاحتلال خلال اقتحامات المدن واعتداءات المستوطنين وقطع الطرق.
تعطل النشاط الاقتصادي
انعكست الأزمات المالية بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على نشاط المنشآت الاقتصادية وقدرتها على الاستمرار، ما أدى لارتفاع نسبة البطالة عقب تسريح العمال من أعمالهم، وانقطاع العمل في أراضي الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، عدا عن معيقات إسرائيلية وقيود فرضت على السلطة الفلسطينية أدت لإبطاء العجلة الاقتصادية.
وتوقع الإحصاء الفلسطيني وسلطة النقد الفلسطينية، في تقرير حول الأداء الاقتصادي الفلسطيني للعام 2023، والتنبؤات الاقتصادية للعام الجاري، أن الاقتصاد الوطني سوف يشهد تراجعاً حاداً في أدائه خلال العام 2024، بعد أن تعرض قطاع غزة إلى عدوان إسرائيلي غير مسبوق، ويتوقع أن يستمر بنفس الحدة والكثافة فترة أخرى.
وتشير نتائج التنبؤات إلى استمرار تراجع أداء الاقتصاد الفلسطيني خلال العام 2024 وللعام الثاني على التوالي بنسبة تقترب من 5%، مدفوعاً بتراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري والصادرات، وتراجع القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية. ومن المتوقع أن يرافق هذا التراجع ارتفاع في معدلات البطالة إلى 35.1%، مقارنة مع 30.7% في العام 2023.
ويوضح الخبير الاقتصادي ياسر شاهين في حديث لـ"العربي الجديد"، أن السلطة الفلسطينية تعتمد ماليًا في مصادرها على "الجمارك والضرائب التي انخفضت بنسبة 50 بالمئة"، بالإضافة لمستحقات أموال المقاصة، التي تستولي عليها سلطات الاحتلال، وذلك أثر على الموازنة العامة الفلسطينية وجعل السلطة في حالة شللٍ اقتصادي قد تصل لمرحلة الانهيار حال قدوم الشهر القادم تزامنًا مع شهر رمضان.
ويقول شاهين: "إن تقطّع أوصال الوحدة الجغرافية أزمة قديمة جديدة تفاقمت خلال الأشهر الأربعة الماضية، والذي أدى إلى خلل في تكاليف النقل والشراء محليًا، والتي انعكست بشكل مباشر على المواطن، بالإضافة إلى غياب منتجات وصناعات يتم الاعتماد عليها في بعض المحافظات والتي تورّد من محافظات أخرى".
ارتفاع الدين الحكومي
بمعزل عن ظروف الحواجز والاقتطاعات الإسرائيلية، فإن السلطة الفلسطينية تعاني ماليًا من ارتفاع حجم الدّين المستحق عليها لصالح البنوك، والقطاع الخاص، وصندوق التقاعد العام، وجهات خارجية أخرى، حتى تجاوزت المديونية 6 مليارات دولار، وبالتالي لم تعد قادرة على الإيفاء بواجباتها، وانتقلت من مرحلة معالجة أزمات المواطن إلى مرحلة تصدير أزماتها على المواطن، وفق شاهين.
أزمة الرواتب مستمرة
يبيّن شاهين أشكال تصدير الأزمات، عبر عدم قدرة السلطة على دفع رواتب كاملة للموظفين منذ نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2021، حيث يتقاضى الموظف الفلسطيني لدى السلطة، رواتب منقوصة تقدر بـ 60-80 بالمائة من الراتب الأساسي، جرّاء الاقتطاعات الإسرائيلية المتكررة لأموال المقاصة، والتي تتجاوز ما يقارب ملياري شيكل منذ بداية عام 2019، حيث يقع على السلطة دفع ما لا يقل عن مجموع خمسة رواتب للموظفين، بالإضافة لعدم قدرتها على النهوض بقطاعات تجارية، مثل قطاعي السياحة والخدمات، اللذين تعتمد عليهما محافظات مثل بيت لحم ورام الله، بعدما تكبدت خسائر طالب العاملون فيه والمنشآت التجارية بها، ولم تستطع السلطة حتى اليوم تعويضهم.
خلل بمنظومة الواردات
زاد الخلل في منظومة الواردات التجارية من عمق الأزمة المالية، حيث يعتمد الاقتصاد الفلسطيني بنسبة كبيرة على الشحن التجاري من الخارج، الذي زادت كلفته بنسبة 300 بالمئة، عدا عن تعطّله وتأخره، ونجم عنه تآكل في القوة الشرائية داخل السوق بعد تضخم تخطى نسبة الـ 20 بالمئة من معظم السلع الواردة، وبفعل عوامل اقتصادية إقليمية وداخلية.
ويأتي ذلك بالإضافة إلى أزمة الشيكات المرتجعة التي ارتفعت بنسبة تتجاوز الـ 22 بالمئة في أول 45 يومًا منذ بدء العدوان على غزة في السابع من أكتوبر، كما يؤكد شاهين.
الارتهان لأموال المقاصة
حول ما يجب على السلطة فعله لتفادي الأزمة الجارية، يقول شاهين: "لا يعقل أن تكون الحكومة الفلسطينية الحالية والحكومات السابقة، رهينة أموال المقاصة ومعتمدة بشكل كامل عليها، بالإضافة لضرورة مشاركة الجهات المعنية والخبراء الاقتصاديين في وضع خطة استراتيجية لتعزيز صمود المواطن وتعزيز صمود الاقتصاد من الانهيار".
وأموال المقاصة، هي مجموعة الضرائب والجمارك والرسوم المفروضة على السلع المستوردة إلى الجانب الفلسطيني، سواء من إسرائيل أو من خلال المعابر الحدودية الإسرائيلية (البرية والبحرية والجوية). ولا تسيطر السلطة الفلسطينية على أي معبر من الخارج، فجميعها خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، باستثناء معبر رفح والذي كانت تسيطر عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من الجانب الفلسطيني.
يبلغ متوسط أموال المقاصة شهريا قرابة 950 مليون شيكل (256.7 مليون دولار)، لكن ما كان يصل الجانب الفلسطيني قبل الحرب على غزة، يبلغ متوسط 750 مليون شيكل (203 ملايين دولار). بينما المبلغ المتبقي البالغ 150 مليون شيكل (40.5 مليون دولار)، تقتطعه إسرائيل مقابل ديون على الفلسطينيين لشركات الكهرباء والمياه، وبعض الغرامات، وأقساط ديون إسرائيلية على السلطة الفلسطينية.
وبعد العدوان أعلنت إسرائيل عن تحويل أموال المقاصة "منقوصة" إلى الجانب الفلسطيني، بعد خصم مبلغ 270 مليون شيكل (73 مليون دولار)، تمثل مخصصات كانت تحول شهريا إلى قطاع غزة.
حرب على العمال
من ضمن التضييقات التي يقوم بها الاحتلال الحرب على العمالة الفلسطينية وحرمانها من أبسط حقوقها، ومنع أعداد كبيرة من الدخول للأراضي المحتلة وإهدار فرص العمل عليهم في مختلف الأنشطة.
وأعد المركز الحكومي الإسرائيلي للمراقبة المدنية، منذ بداية العام الجاري خطة تهدف لاستبدال العمال الفلسطينيين الذين يقدر عددهم بـ200 ألف عامل داخل إسرائيل، بعمال من عدة دول أجنبية. وتهدف الخطة لاستبدال العمال الفلسطينيين للأبد.
وأُعدت الخطة الحكومية بالتعاون بين وزارات المالية والعمل والداخلية الإسرائيلية، وتهدف لجلب عمال من عدة دول كالصين والهند وسريلانكا، لاستبدالهم حتى بعد انتهاء الحرب، بالعمال الفلسطينيين الذين يقدر مجموع أجورهم الشهرية بـ417 مليون دولار. ويتطلب تنفيذ هذه الخطة إبرام اتفاقيات مع الدول التي لم توقع بعد على الاتفاقية، وتستمر التحركات الدبلوماسية الرسمية لإتمامها، وفق التأكيد الإسرائيلي.
وصادق وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، على الخطة وبانتظار أن تطرح للتصويت في الكنيست الإسرائيلي.
اقتصاد اتكالي
يرى الباحث في مرصد السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فراس الرياحي، أن الاقتصاد الفلسطيني يوصف بـ "الاتكالي" نتيجة الارتباط المباشر مع الاحتلال الإسرائيلي.
وطالب الحكومة الفلسطينية بفك الارتباط مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال التعامل باعتبارها سلطة تحتكم للشعب، لا باعتبارها سلطة حكم ذاتي تتعامل بمرحلة انتقالية، وبالتالي إيجاد حلول جذرية لأزمة المقاصة التي يتحكم فيها الاحتلال من خلال بناء سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة وتعديل اتفاقية باريس وتشكيل ضغط دولي للانفكاك الجمركي مع إسرائيل.
ووفق الرياحي "لم تضع الحكومة الفلسطينية خطة لتخفيف الاستيراد، وتخفيف العمالة داخل إسرائيل، ولم تساهم في توظيف عدد أكبر من الناس في القطاعات الاقتصادية، وذلك لو تم لكان تأثير أزمة المقاصة أضعف مما هو عليه الآن".
أُعدت الخطة الحكومية بالتعاون بين وزارات المالية والعمل والداخلية الإسرائيلية، وتهدف لجلب عمال من عدة دول كالصين والهند وسريلانكا، لاستبدالهم حتى بعد انتهاء الحرب، بالعمال الفلسطينيين
ويوضح الرياحي أن تحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة للأزمة الاقتصادية يعتبر فشلًا نتيجة شواهد تؤكد سوء إدارة الحكومة الفلسطينية للأزمة المالية عبر التعامل مع قضية الضرائب بشكل يخالف توصيات الخبراء، من خلال المساواة في دفع الضريبة بين المواطن العادي إن كان موظفًا أو عاملًا وبين رجل الأعمال الذي يعتبر من الطبقة الغنية.
خصخصة المشاريع السيادية
يؤكد الرياحي أن "هناك شواهد أخرى تشير للأزمة المالية، وهي "خصخصة" المشاريع السيادية أي تحويلها للقطاع الخاص، والأصل أن تدار بشكل مباشر من الدولة التي تحقق هي الأرباح لتفادي الأزمات الاقتصادية، لكن عدم تطبيق ذلك أدى لارتفاع الأسعار واحتكار قطاعات أساسية مثل الكهرباء بيد القطاع الخاص".
وأضاف: بالتالي أدى ذلك إلى ضعف المواطن اقتصاديًا، وتعطل الانفكاك المالي مع إسرائيل، وهنا تكون الحكومة الفلسطينية قد فشلت في تحقيق نقطة اقتصادية مهمة وهي الحماية الاجتماعية.
وحاول "العربي الجديد" التواصل مع وزارة الاقتصاد الفلسطينية عبر وكيلها منال فرحان، التي رفضت التعقيب بحجة اجتماعات العمل، وأحالت الموضوع للدائرة الإعلامية، ثم لدائرة السياسات في الوزارة، وتم التنسيق لأكثر من موعد، ثم تنصلوا من الإجابة عبر الهاتف بعد ساعات من الانتظار.