تحل الذكرى الخمسون لتأميم حقول النفط والمحروقات في الجزائر واسترجاعها من فرنسا، في ظروف اقتصادية صعبة تتميز بتهاوي مداخيل الذهب الأسود التي تشكل 94 في المائة من إيرادات البلاد و79 في المائة من صادراتها.
ويأتي هذا التراجع متزامناً مع ارتفاع الاستهلاك الداخلي النفطي، ما جعل النفط يتحول من نعمة استرجعت من المستعمر الفرنسي في 24 فبراير/ شباط 1971 إلى نقمة تؤرق أسهمها في البورصات الحكومة والشعب على السواء. أما المخططات الحكومية لفك أغلال التبعية النفطية في البلاد، فقد باءت كلها بالفشل حتى اليوم، لا بل تشير تقارير مختصة إلى أن الجزائر آيلة لأن تخرج من لائحة الدول النفطية مستقبلاً، لتصبح البلاد المأزومة بلا موارد طبيعية كافية ولا بدائل اقتصادية ناجعة.
50 سنة من التبعية
لعل أكثر الأسئلة التي تكررت منذ بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2014، كانت تلك المتعلقة بطريقة صرف وإنفاق أموال النفط، وكيف يمكن تحرير الاقتصاد الجزائري من قيود التبعية لمداخيل النفط.
وفي تقييم للعقود الأربعة التي مرت بعد استرجاع الجزائر لسيادتها على النفط، قال الخبير الاقتصادي جمال نور الدين، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "النفط في الجزائر للأسف تحول من نعمة إلى نقمة نتيجة رهن الاقتصاد الوطني بهذه السلعة.
فمع كل هزة ارتدادية في الأسواق العالمية تنطلق صافرات الإنذار في الجزائر، كما تسبب النفط في القضاء على المساحات الزراعية التي تحولت إلى عقارات، وتم القضاء على المصانع عن طريق غلقها وتسريح عمالها".
وأضاف المتحدث نفسه أن أموال النفط أغرقت الجزائر في دوامة التبعية الاقتصادية لغيرها باستيراد جل المواد الاستهلاكية حتى البسيطة منها، وأصبحت البلاد تستهلك أكثر ممّا تنتج، خاصّة في السنوات الأخيرة التي فاق فيها سعر البرميل الواحد عتبة 100 دولار.
وعرفت الجزائر في السنوات الـ20 الماضية إنفاق أكثر من 1000 مليار دولار في البرامج الخماسية الأربعة التي أطلقها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وذلك بالاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، وهو الرقم الذي تحول إلى ورقة سياسية واقتصادية عجلت بسقوط نظام بوتفليقة.
وحسب نور الدين، فإن الجزائر ضيعت فرصة كبيرة لتنويع مصادرها المالية في العقدين الماضيين، بعدما صرفت مبالغ ضخمة جداً من دون أن تخفض حجم مساهمة النفط في مداخيل البلاد ولو بـ5 في المائة، وهذا شيء يقع ضمن مسؤولية الحكومات المتعاقبة، حيث فضلت شراء "السلم الاجتماعي" من خلال استيراد كل شيء ودعم الأسعار، في وقت كان يتوجب عليها وضع نموذج اقتصادي جديد.
معضلة المؤشرات
وتواجه الجزائر بعد نصف قرن من استرجاع حقول النفط من المستعمر الفرنسي، صعوبات كبيرة في الحفاظ على صادراتها النفطية والغازية على السواء، في ظل ارتفاع الطلب الداخلي واستقرار الإنتاج، بل وانخفاضه في بعض الأشهر لأسباب تقنية، ما بات يهدد عائدات البلاد الريعية من العملة الصعبة.
وتشكل إيرادات الطاقة 92 بالمائة من إجمالي واردات الجزائر من العملات الأجنبية، حسب بيانات رسمية، ويأتي ذلك في وقت تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية حادة، زادتها تعقيداً الجائحة الصحية وركود الاقتصاد، وفقدان الدينار لبريقه بعد تسجيله أرقاماً متدنية غير مسبوقة أمام العملات الأجنبية.
وتهاوت مؤشرات نفط وغاز الجزائر بشكل مخيف في السنوات الأخيرة، بشكل بات يؤرق حكومة الرئيس عبد المجيد تبون، التي بنت تمويل مخططها الخماسي 2020 - 2024 المقدر بـ260 مليار دولار على عائدات النفط.
في 2019 انخفض إنتاج الجزائر النفطي إلى 1.4 مليون برميل يوميًا، ما جعلها تحتل المرتبة 16 على مستوى العالم والثالث في أفريقيا
بلغة الأرقام، أكد مدير مكتب "إنيرجي" للطاقة بباريس ومدير مجمع "سوناطراك" النفطي سابقا، مراد برور، أن "الجزائر في عام 2019 انخفض إنتاجها النفطي إلى 1.4 مليون برميل يوميًا، ما جعلها تحتل المرتبة 16 على مستوى العالم والثالث في أفريقيا بعد نيجيريا وأنغولا، ويعد هذا الانخفاض الأكبر على مدى عشر سنوات (مقارنة بعام 2009)، وبتراجع بلغ 17 في المائة في هذه المدة الزمنية، وفق بيانات رسمية.
وأضاف أن "تقديرات سوناطراك تشير إلى تراجع الإنتاج في 2020 المنتظر الكشف عن أرقامها المفصلة في الأيام المقبلة، بسبب التزام الجزائر باتفاق تخفيض الإنتاج مع منظمة أوبك.
وفي العام الماضي، صدرت البلاد، بحسب الأرقام التي وصلتنا من وزارة الطاقة، حوالي 82.2 مليون طن من المكافئ النفطي من النفط والغاز مقابل 20 مليار دولار، بانخفاض قدره 40 في المائة في القيمة و11 في المائة في الحجم، مقارنة بعام 2019، ومن الصعب إعطاء هذه الأرقام قراءة أخرى سوى أن سنة 2021 ستكون صعبة على نفط الجزائر وغازها".
وأوضح مراد برور، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من المؤكد أن الأزمة الصحية أدت إلى انخفاض الطلب العالمي وتسببت في انخفاض الأسعار، لكن الانخفاض في أحجام الصادرات لا يمكن تفسيره إلا من خلال انخفاض الإنتاج إلى 142 مليون طن في عام 2020، مقابل 157 مليون طن في عام 2019، بتراجع قدره 30 في المائة، مع العلم أن الطلب الداخلي قد انخفض أيضًا بسبب الوباء بـ13 في المائة، من 67 إلى 59 مليون طن من المكافئ النفطي".
من جانبه، أكد وزير الطاقة السابق عبد المجيد عطار (تمت إقالته في 21 فبراير/ شباط الحالي)، لـ"العربي الجديد"، أن "الاستهلاك الداخلي من الغاز ارتفع بنسبة 53 في المائة منذ 2009، وهو رقم كبير مقارنة بمستوى الناتج الداخلي الخام، لو نقارنه بألمانيا وفرنسا، أي أننا نستهلك الكثير من الطاقة من دون أن ننتج أي شيء آخر اقتصاديا، وهذا ما يعني أن نستهلك ولا نستثمر طاقتنا".
وأضاف أن "الجزائر تواجه عدة امتحانات متقاطعة بين رفع الإنتاج وكبح الاستهلاك بالإضافة لتحسين استثمار أموال النفط لبعث الاقتصاد".
محاولات عقيمة
طيلة العقود الخمسة التي عاشتها الجزائر تحت رحمة عائدات النفط، أطلقت الحكومات في ظل مختلف الرؤساء عدة مخططات لفك ارتباط الاقتصاد الجزائري بالنفط، إلا أن كل المحاولات كانت فاشلة. ولم يغرد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خارج السرب، حيث استحدث وزارة كاملة تعنى بالانتقال الطاقوي، وأطلق في منتصف 2020 مخطط إنعاش الاقتصاد بـ25 مليار دولار، من 3 محاور كبرى و20 بندا لإصلاح وإنعاش اقتصاد البلاد، المتضرر من ثنائية فيروس كورونا وهبوط أسعار النفط.
فك ارتباط الاقتصاد بالنفط تصطدم في كل مرة بغياب الإرادة السياسية
ورأى الخبير الطاقوى مهماه بوزيان أن "إشكالية فك ارتباط الاقتصاد بالنفط تصطدم في كل مرة بغياب الإرادة السياسية لتحقيق ذلك، وأحيانا كثيرة تكون الحسابات السياسية أولى، بحيث تحول عائدات النفط لدعم الأسعار وشراء السلم الاجتماعي وبالتالي تؤجل المخططات".
وأضاف، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أن "النفط بعد نصف قرن من استرجاعه من فرنسا لا يزال نقمة أكثر منه نعمة، ولم نستغل أمواله كما فعلت الكثير من الدول، ويصعب فعل ذلك في المدى القريب مع نقص الأموال".