استمع إلى الملخص
- **التحديات الاقتصادية الحالية للولايات المتحدة**: الصين تمتلك استثمارات ضخمة في سندات الخزانة الأميركية، مما يساعد في إبقاء أسعار الفائدة منخفضة. لكن الاعتماد على البنوك المركزية الآسيوية يشكل نقطة ضعف للاقتصاد الأميركي.
- **التداعيات المستقبلية والخيارات الصعبة**: الحكومة الأميركية قد تضطر لخفض الإنفاق أو مواجهة الإفلاس الفني. الاعتماد المفرط على الدولار قد يدفع الدول المنافسة لإنشاء نظام نقدي متعدد الأقطاب. صندوق النقد الدولي أوصى برفع الضرائب لإبطاء الدين الفيدرالي المتزايد.
تعد الديون والإفلاس نقطة انعطاف رئيسية في تدهور الإمبراطوريات وانحدارها عبر التاريخ الإنساني، حيث سقطت الإمبراطورية الرومانية بسبب عجزها عن دفع رواتب الجنود، وسقطت الإمبراطورية العثمانية بسبب الإفلاس والاضطرار إلى الاستدانة من بريطانيا، كما سقطت الإمبراطورية البريطانية حينما اضطرت إلى تأجير قواعدها العسكرية للولايات المتحدة لتغطية ديونها بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
الآن يبدو أن الولايات المتحدة تسير في نفس طريق تراكم الديون التي فاقت أكثر من 35 تريليون دولار نهاية يوليو/ تموز الماضي، للمرة الأولى على الإطلاق، أي ما يعادل 122.5% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة وفق بيانات رسمية، وفاقت خدمة ديونها مليار دولار يومياً. وكان حجم الدين الحكومي نحو 907 مليارات دولار قبل أربعة عقود فقط، وهو ما أثار السؤال، هل ستغرق الديون الضخمة الإمبراطورية الأميركية وترمي بها في هاوية السقوط؟
يرى تحليل في معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية بواشنطن أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الصحة المالية والقوة الاقتصادية، واحتفاظ أميركا بمكانة القوة العظمى، في وقت أصبحت فيه الصين قوة صاعدة تتمدد في الأسواق العالمية وتراكم الدولارات عبر فوائض الميزان التجاري مع أميركا. ولدى الصين حالياً استثمارات في سندات الخزانة الأميركية تفوق ثلاثة تريليونات دولار. وفي تحليل للاقتصادي للأميركي كاي رايس دال، ومجموعة من الاقتصاديين في نشرة "ماركت بليس" الأميركية المتخصصة، يرى أن مشتريات الصين الضخمة من الديون الأميركية ساعدت في إبقاء أسعار الفائدة الأميركية منخفضة. لكن، كما يقول الاقتصادي نيل ماكينون من شركة "في تي بي كابيتال" في نفس النشرة، "هناك جانب سلبي".
ويتابع تحليل معهد بيترسون: "من المؤكد أن هذا الاعتماد على البنوك المركزية الآسيوية يشكل نقطة ضعف بالنسبة للأسواق المالية الأميركية والاقتصاد الأميركي بشكل عام". ويقول: "إذا توقفت الصين عن شراء أذون الخزانة الأميركية وباعت جزءاً كبيراً من تلك الديون التي تمتلكها بالفعل، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية ويشل الاقتصاد الأميركي.
ولكن يرى اقتصاديون أنه من غير المرجح حتى الآن أن يحدث ذلك الشلل بسبب أهمية السوق الأميركية للصادرات الصينية. وعلى الرغم من هذا الاستبعاد، فقد حدث شيء مماثل لبريطانيا في خمسينيات القرن الماضي، كما من المحتمل أن تجد الصين أسواقاً أخرى تعوض السوق الأميركية.
ويلفت اقتصاديون غربيون إلى أن هناك تشابهاً بين وضع الولايات المتحدة الحالي والمملكة المتحدة في القرن الماضي، من حيث العملة المهيمنة والإنفاق الضخم على الجيوش والقواعد العسكرية. وبالتالي قد تجد أميركا صعوبة في المحافظة على مكانة الدولة العظمى إذا استمرت على نهج الإنفاق عبر الاستدانة ولم تعمل على تقوية اقتصادها على المدى الطويل وبناء أساس مالي مستقر. ويبدو أن أزمة أميركا أنها ظلت تعيش بما يتجاوز إمكاناتها المالية، وهي بالتالي تتشابه مع ما كانت بريطانيا عليه قبل السقوط.
وواصلت الإدارة الأميركية الإنفاق فوق ما تستطيع لمدة طويلة معتمدة على مكانة الدولار وقوة الجيش وسياسات الحظر، وابتزاز الدول التي تعارضها عبر الحظر والعقوبات، واستخدام أذرعها المالية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والأمم المتحدة ومؤسسة التمويل الدولية وغيرها، في إخضاع الدول لسياساتها.
وبينما يقدر حجم الاقتصاد الأميركي بنحو 28 تريليون دولار، تفوق الديون المستحقة على الحكومة 35 تريليون دولار بنهاية يوليو. وهذه الديون في طريقها للنمو أكثر خلال السنوات المقبلة، ما يقلل قدرة البلاد على الاستثمار في المجالات التي توفر فرص العمل والنمو الاقتصادي، وتضغط خدمة الدين على الطبقة المتوسطة وتحد ليس من نموها فقط، ولكن تساهم في ضمورها التدريجي مع تركز الثروة في يد قلة من المليارديرات ويتزايد الفقر وفق تقارير غربية.
وبلغ حجم الديون الأميركية، وفق بيانات وزارة الخزانة، 33.17 تريليون دولار في نهاية العام 2013 وارتفعت إلى أكثر من 35 تريليون دولار منتصف العام الجاري، ويرتفع حجم خدمة الديون الأميركية أو حجم الفوائد التي تدفعها وزارة الخزانة لحملة السندات، وذلك وفق بيانات الوزارة. ووفق التقديرات الحكومية، من المتوقع أن تنفق الحكومة 728 مليار دولار في العام الجاري 2024 لخدمة ديونها، وهو ما يمثل 16% من إيرادات الولايات المتحدة.
ووفق تقرير بمعهد بيترسون للدراسات الاقتصادية، "في الوقت الحالي، تنفق الولايات المتحدة ما يقرب من مليار دولار يومياً على خدمة فوائد الديون. وعلى مدى السنوات العشر المقبلة، ربما تنمو خدمة الدين العام إلى ما يقرب من أربعة تريليونات دولار". ويقدر المعهد أن خدمة الديون سوف تتضاعف كل عشر سنوات بعد ذلك. وبالتالي فإن الولايات المتحدة بدلاً من الاستثمار في المستقبل، ستضطرها الديون لدفع ثمن الماضي. ولذا فإن كلفة الديون ستزاحم تلقائياً الإنفاق على أولويات للدولة العظمى مثل التعليم والبنية التحتية والبحث العلمي، وهي المحركات الرئيسية للنمو والازدهار لأية دولة متقدمة.
في ذات الصدد، يرى تحليل بمجلة ذي إيكونوميست البريطانية نشر في 19 يوليو/ تموز 2024 أن أحد العوامل التي تؤثر على القدرة على تحمل الديون هو ما إذا كان معدل نمو الاقتصاد أكبر من سعر الفائدة (أي خدمة ديونها). وبين عامي 2008 و2019، عندما انخفضت أسعار الفائدة على الدولار إلى ما يقرب من الصفر، كان معدل نمو الاقتصاد أعلى من سعر الفائدة. وقد اتجهت تكاليف خدمة الدين بما هي حصة من الإيرادات الحكومية إلى الانخفاض إلى نحو نصف ما كانت عليه في عام 1990. وحتى مع اقتراض الحكومة المزيد، ظل الدين بما هو حصة من الناتج المحلي الإجمالي مستقراً. ولكن ارتفاع التضخم في الفترة 2021-2023 أدى إلى ارتفاع حجم الديون المستحقة عليها، كما أن أسعار الفائدة المرتفعة المستخدمة لإدارة التضخم سيكون لها أثر على الديون.
ووفق تقرير "ذي إيكونومست"، ستضطر الحكومة لإنفاق 728 مليار دولار لخدمة ديونها في عام 2024، أو 16% من الإيرادات. ومع تجديد المزيد من الفواتير الحكومية بمعدلات أعلى، فإن تكلفة خدمة الديون سترتفع بشكل كبير. وما لم يتحسن معدل نمو الاقتصاد، أو تنخفض أسعار الفائدة بشكل كبير، فإن الفائدة على الدين العام سوف ترتفع حتى من دون اقتراض إضافي.
ويرى محللون أن خدمة الديون المتفاقمة قد تضع الحكومة الأميركية أمام خيارات صعبة، وهي إما خفض الإنفاق على الدفاع والخدمات العامة ومعاشات كبار السن والرعاية الطبية وغيرها من المزايا الاجتماعية، أو العجز عن تلبية تسديد فوائد الديون، وهو ما يعني الإفلاس الفني وخفض الائتمان الأميركي من قبل وكالات التصنيف العالمية كما جرى في سنوات ماضية. كما أن الإنفاق الدفاعي الأميركي، والانتقال إلى الطاقة المتجددة، والسياسة الصناعية، من شأنها أن تزيد أزمة الديون تعقيداً.
ويشير التحليل إلى أنه إذا أدى هذا العجز الضخم إلى جعل الدائنين متوترين، فمن الممكن أن يطالبوا بمعدل فائدة أعلى. وكان الكونغرس بطيئاً في التعامل مع أزمة العجز المالي الأميركي، ولكن في نهاية المطاف، قد تجبر السوق الإدارة الأميركية على رفع الفائدة على سندات الخزانة. وحتى الآن، تعتمد أميركا على مكانة الدولار في النظام المالي العالمي وعمق أسواقها المالية في جذب الاستثمارات العالمية. ولكن حتى مكانة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية تواجه انعطافات حادة بسبب استخدام الدولار بشكل متزايد آليةً في السياسة والحظر الاقتصادي.
وعلى الرغم من الصعوبات التي تجدها العملات المنافسة للدولار، فإن استخدامه المكثف في السياسة الخارجية الأميركية ربما يدفع التقارب الصيني الروسي ودول مجموعة بريكس إلى نظام نقدي متعدد الأقطاب في مرحلة ما لضرب هيمنة الورقة الخضراء، ولكن كيف قد يبدو الأمر؟
يبين تحليل بالمعهد الملكي الاسباني "إلكانو" أن هناك جدلاً طويل الأمد في النظرية النقدية الدولية بين أنصار استقرار هيمنة الدولار وأولئك الذين يدعمون عالم العملة متعدد الأقطاب. وحذر مارتن وولف من صحيفة فاينانشال تايمز وآخرون من المخاطر التي يفرضها عالم ما بعد الدولار ونظام نقدي دولي ثنائي القطب، حيث تقف الولايات المتحدة والصين على طرفي نقيض. وإذا تحقق هذا السيناريو الأخير، فسوف تعاني الولايات المتحدة من انحدار حاد في قدرتها على فرض نفوذها الاقتصادي العالمي، مع ما يترتب على ذلك من عواقب عميقة على المستوى المحلي وعلى النظام الدولي.
وكان صندوق النقد الدولي قد أكد في يوليو الماضي، ضمن مشاورات المادة الرابعة، أنه ينبغي للحكومة الأميركية رفع الضرائب لإبطاء الدين الفيدرالي المتزايد بما في ذلك على الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 400 ألف دولار، وهو الحد الذي وضعه الرئيس جو بايدن. وأضاف الصندوق أن من المتوقع أن تظل نسبة الدين العام الأميركي إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من توقعات ما قبل الجائحة على المدى المتوسط، لتصل إلى 109.5% بحلول عام 2029 مقارنة مع 98.7% في عام 2020.