عندما نتحدث عن أزمة السوق السوداء في مصر فإننا أمام ثلاث حقائق، الأولى: ضعف قدرة البنك المركزي على مواجهة المضاربات المحمومة في سوق العملة حالياً، بسبب الموقف الحرج للاحتياطي الأجنبي الذى يغطى نحو 3 أشهر من واردات مصر وضخامة الديون الخارجية المستحقة على الدولة والبالغة نحو 9 مليارات دولار يجب سدادها خلال الشهرين المقبلين.
والحقيقة الثانية هي فشل الحلول الأمنية في علاج مشكلة سوق الصرف وكبح المضاربة على الدولار، والثالثة هي أن ما يحدث حالياً في سوق الصرف والتراجع المستمر في قيمة الجنيه المصري أمام الدولار والعملات الرئيسية، ما هو إلا نتاج لعام ونصف عام من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي أعقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، وما تبع ذلك من تراجع إيرادات السياحة بنسب تصل لأكثر من 40% والانخفاض الحاد في الاستثمارات الأجنبية، كما أن الحديث المستمر عن الإرهاب وتوسيع دائرته بحيث بات يشمل حتى المعارضين للنظام المصري، فاقم من هذه الأوضاع وأزعج السياح والمستثمرين على حد سواء.
بداية يجب أن نتفق على أن الأزمات الاقتصادية لا يمكن حلها بالحلول الأمنية أو بالقبضة الحديدية، بل يتم حلها بأساليب اقتصادية ومالية محترفة، مثلاً إذا ارتفعت سلعة ما في السوق بدرجة مبالغ فيها وبأكثر من قيمتها، فإن الحل لا يكمن في إيداع التجار ومستغلي الفرص غياهب السجون وملاحقة الباعة الجائلين في الشوارع، بل الحل يكمن في زيادة عرض السلع في الأسواق وتلبية الطلب المتزايد منها، وتطبيق القانون على المحتكرين الذين يحبسون السلعة عن الأسواق انتظاراً لارتفاع سعرها، وبالتالي تحقيق مزيد من الأموال الحرام.
ولذا عندما تلاحق الجهات الأمنية في مصر تجار العملة والمضاربين في سوق الصرف الأجنبي، يجب ألا نتوقع اختفاء السوق السوداء للعملة وتحسن قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، ذلك لأن هناك أسباباً حقيقية لهذه السوق أبرزها تراجع موارد البلاد من النقد الأجنبي بما فيها تحويلات المصريين العاملين بالخارج والسياحة.
وعندما يغلق البنك المركزي المصري 15 شركة صرافة لفترات تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر بسبب التلاعب في سوق النقد الأجنبي وبيع الدولار بأعلى من سعره الرسمي بالبنوك والصرافات، يجب ألا يتوقع أحد اختفاء السوق السوداء للعملة التي باتت تهز سوق الصرف المحلي وتربك الأسواق وترفع الأسعار لدرجة لا يمكن أن يتحملها الموطن العادي.
في الأسبوع الماضي قال هشام رامز محافظ البنك المركزي المصري، في اجتماع جمعه ومستثمرين أميركيين إنه يتوقع القضاء على السوق السوداء للدولار في فترة تتراوح بين ستة أشهر وعام، ولم تمر أيام على تصريح المسؤول الأول عن إدارة السياسة النقدية حتى اشتعلت السوق السوداء ليصل سعر الدولار لمستويات قياسية لم يصلها منذ سنوات حيت قفز الى 7.77 جنيهات بزيادة نحو 20 قرشاً في أسبوع واحد.
لقد استغل المضاربون الأوضاع الحرجة التي يمر بها الاقتصاد المصري وعدم قدرة الحكومة والبنك المركزي على كبح جماحهم، ولذا رفعوا سعر الدولار بدرجة ملحوظة، ظناً منهم أن هامش تحرك البنك المركزي لكبحهم ضعيف في ظل انشغاله بتدبير وديعة قطر البالغة قيمتها 2.5 مليار دولار ويجب سدادها نهاية الشهر الجاري، وأن البنك المركزي ليس لديه القدرة حالياً على ضخ مليار دولار مثلا في السوق لتلبية احتياجات البنوك وعملائها من مستوردي السلع الاستراتيجية، وبالتالي يهدأ سعر الدولار ويقلل من اضطرابات سوق الصرف.
كذلك يدرك المضاربون أيضاً انشغال الحكومة بتدبير ملياري دولار بشكل عاجل لسداد جزء من مستحقات شركات النفط والغاز العالمية البالغة 4.9 مليارات دولار حتى لا تنفّذ هذه الشركات تهديدها بالانسحاب من مصر.