يعيش مجتمع الدنمارك وضعا اقتصاديا غير مسبوق منذ 4 عقود، وذلك في سياق اقتصادي أوروبي ضاغط على الجميع. وهذا ما أحكم الضائقة المعيشية على الأسر، فيما هم الحكومة ضمان الرفاهية وتأمين المشمولين بسن الشيخوخة.
وتسجل الأرقام الرسمية الصادرة اليوم الجمعة تراجع القدرة الشرائية للمواطنين تحت ضغط ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار بنحو 7.4% في المتوسط منذ إبريل/نيسان الماضي حتى اليوم فقط. ويقارن المتخصصون في الأسواق والاقتصاد الدنماركي الوضع بما كان قبل نحو 40 سنة في فترة حكم المحافظين في الثمانينيات، برئاسة بول شلوتر، والتي عرفت بفترة "شد أحزمة البطاطس".
تفيد الأرقام الصادرة عن الهيئات الاقتصادية وعن "الإحصاء الدنماركي" بأن جميع الأسعار والخدمات ارتفعت حتى الآن بنحو 11% في المتوسط، مع توقعات باستمرار هذا الارتفاع لبقية أشهر السنة الحالية. ويبدو أن الارتفاع المتواصل في الأسعار يحلق أيضا بالتضخم، ويضغط جيوب المستهلكين، ما يضطرهم لاستخدام نقود أكثر من مداخليهم لتسيير يوميات أسرهم.
وباتت سلال شراء الأغذية مرتفعة التكلفة بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، تأثرت أسعار الزبدة، رغم أن البلد شهير بإنتاجها، بزيادة السعر بـ36% في شهر واحد فقط، بينما صعدت أسعار الزيوت النباتية بنحو 63%، هذا إلى جانب قفزات في أسعار مشتقات الحليب والبيض مقارنة بما كانت عليه أسعار السنة الماضية.
وباتت جولة الأسرة في المتاجر الكبيرة بمثابة "رحلة إثارة لتخمين السعر"، وفقا لأوصاف المتخصصين، إذ باتت تكلفة السلال وعربات التسوق العائلي تدفع بالأسر لتبديل الأولويات.
فرغم أن البلد الاسكندنافي الصغير (نحو 5.8 ملايين نسمة) يصنف أنه دولة رفاهية، فإن محافظ المواطنين تئن من تراجع قدرة نقودها على مجاراة تراجع القدرة الشرائية. بعض السلع التي أصيبت بحمى ارتفاع الأسعار تنتج محليا، إلا أن ارتباط سعر تكلفة الإنتاج، كالطاقة والأسمدة وتكلفة الإمداد وغيرها، تدفع السوق نحو متوالية الزيادات.
التضخم الإجمالي، بحسب البنك المركزي، يجعل الأسر تشعر بارتفاع الأسعار على أنه أكبر من النسبة المتوسطة (7.4%) بنحو 7 أضعاف، إذ إن الغذاء وتكلفة الطاقة يحتلان مكانة متقدمة في عربة التسوق الإجمالية للعائلات الدنماركية. وزادت مثلا أسعار منتوجات المعكرونة بشكل غير مسبوق مع تراجع إمدادات الحبوب، بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.
نظرة عن كثب على ما يجري في السوق الدنماركي تكشف أن الأمر لا يتعلق فقط بالمواد الغذائية.
فالزيادات في الأسعار تطاول الأثاث والإكسسوارات المنزلية، والتي زادت بنحو 20%، وحتى أسعار الملابس صارت تتأثر بزيادة تكلفة الإنتاج والنقل.
التأثيرات السلبية باتت تنعكس أيضا على مخططات التحول الأخضر، أو الطاقة المستدامة، وبشكل خاص في قطاع السيارات. فبحسب "الإحصاء الدنماركي" يبدو أن الاتجاه العالمي العام، مع ارتفاع أسعار المواد الخام ونقص الرقائق، وبالتالي انخفاض الإنتاج، ويؤدي إلى بطء استبدال سيارات الوقود الأحفوري بالهجينة والكهربائية، ويعيد ذلك البريق إلى سوق السيارات المستعملة في البلد، والذي يشهد بدوره ارتفاعا في أسعارها.
ومع اقتراب موسم الإجازة الصيفية، الأولى من دون قيود كورونا، يبدو قطاع السفر أيضا على موعد مع تراجع، وإن ليس بذات تراجع عامي 2020 و2021، لناحية قضاء العطلات خارج الدنمارك.
وارتفعت بشكل ملحوظ تكاليف رحلات "تشارتر"، حتى إلى وجهات كانت معروفة برخصها، على الأسر. وجاءت أزمة شركة طيران "ساس" الاسكندنافية أخيرا لتزيد في ارتفاع الأسعار، حيث يبدو أن أزمة ديون الشركة ووصولها إلى حافة الإفلاس في قسمها السويدي، والتحذير بإضرابات تطاولها في الأسبوعين القادمين، دفعت بتذاكر السفر إلى زيادة بنسبة 19% في المتوسط، مع ملاحظة زيادة عالمية في أسعار الإقامة في الفنادق بنسبة 15%.
وتنبهت حكومة يسار الوسط إلى حجم الإرهاق الذي يصيب فئات المتقاعدين من كبار السن على وجه الخصوص، واعدة بتقديم منحة مالية وضريبية قريبة لمواجهة المصاعب. ويأتي ذلك مع رفع البنك المركزي الأوروبي، الخميس الماضي، توقعاته بارتفاع للتضخم لبقية العام والعام المقبل، مع رفعه الفائدة، وتوقع تراجع أسعار وفائدة السوق العقاري، ما يعني أن الأمور ليست مؤقتة في البلد وبقية الدول الأوروبية.
وكلما بقيت الأسعار في ارتفاع، أدى ذلك إلى ضرورة زيادة أجور الموظفين، وخصوصا أن الأمور ذاهبة نحو المفاوضة الجماعية بين النقابات الممثلة للعمال والموظفين وأرباب العمل في السوق (بقطاعيه الخاص والعام)، وذلك في محاولة للحفاظ على مستوى دولة الرعاية والرفاهية التي تعرف بها البلاد.
وكانت فترة الربيع الحالي شهدت زيادة أجور بنحو 4%، وهو أعلى معدل زيادة منذ 2009، مع ملاحظة أن الشركات الدنماركية لا تزال تعاني من افتقارها إلى القوى العاملة، ما يعني رفضها بعض الطلبيات والخدمات بسبب ذلك النقص الذي لم تساهم الأزمة إلا بتفاقمه.
ورغم المساعي لحسر الفجوة بين زيادة الأسعار والأجور، فإن التخفيف من التضخم لا يعني الانتهاء منه، وخصوصا أن الأسر باتت أكثر حذرا في استهلاكها وصرفها. وتفيد أرقام "الإحصاء" الدنماركي بأن الأمن الوظيفي ووجود شبكة أمان اجتماعية للأسر لم ينقص من حجم مدخرات الدنماركيين، التي تقدر بنحو ألف مليار كرونه في البنوك، وهي مدخرات ربما تذهب بعض الأسر الدنماركية لاستخدام بعضها محليا في الإجازات الصيفية، مع توقع حصول مئات آلاف الموظفين والعاملين على "شيك الإجازة" (المستقطع والمدفوع من أرباب العمل والمعفى من الضريبة).