التكامل الاقتصادي وفناء العرب

07 نوفمبر 2022
العديد من الدول العربية تواجه مخاطر شح الغذاء (فرانس برس)
+ الخط -

تفترس المواطن العربي من المحيط إلى الخليج العديد من الأمراض الاقتصادية المتوطنة، والتي تفاقمت بدرجات مضاعفة خلال فترة انتشار فيروس كورونا وما أعقبها من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، حتى بلغت حدود مخاطر شح الغذاء للإنسان والحيوان في العديد من الدول العربية، وذلك على الرغم من توافر كافة المقومات الاقتصادية والبشرية الكافية لصنع حالة تنموية سبقتنا إليها العديد من البلدان التي لم تكن تمتلك أيّاً من تلك المقومات.

وقد أدركت الدول العربية منذ منتصف القرن الماضي أهمية التكامل الاقتصادي، ليس فقط لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الكبيرة وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية، لكن أيضاً في سبيل الاستقلال السياسي وتخفيض حدة التبعية للدول الكبرى، أو على الأقل الاحتفاظ بهامش معقول من القدرة على استقلال القرار، خاصة في القضايا العربية الأساسية.

ورغم مرور ستة عقود كاملة على بداية محاولات التكامل العربي والتي أفرزت العديد من اتفاقيات الدفاع المشترك ومحاولات الوحدة الاقتصادية، إلّا أنّ جزءاً يسيراً منها للغاية تحول إلى واقع ملموس، بينما حبست معظم بنود الاتفاقيات في أدراج البيروقراطية والخلافات السياسية، فكان من الطبيعي استمرار التبعية السياسية والاقتصادية، بل وتجذرها، بالإضافة إلى المزيد من التهاوي في مستوى العوز الغذائي في ظلّ مستويات إنتاج لا تتناسب بأيّ حال مع مستوى الموارد المتوفرة.

مكاسب كبيرة للتكامل الاقتصادي

تشير النظريات الاقتصادية والتجارب السابقة للعديد من الدول إلى خمس مراحل متلاحقة ومتتابعة في مسيرة التكامل الاقتصادي الإقليمي، تبدأ باتفاقات التجارة التفضيلية، كمنطقة التجارة الحرة، وتمر بالاتحاد الجمركي، فالسوق المشتركة، فالوحدة الاقتصادية، وصولاً إلى الاندماج الاقتصادي الكامل والشامل، وقد انخرطت العديد من الدول حول العالم في تكتلات اقتصادية إقليمية رغم قدراتها الكبيرة والتي تكفيها منفردة لتحقيق مستوى كبير من التنمية والرفاهية لمواطنيها.

وأكدت التجربة أن ذلك التوجه قد حقق فعلياً لتلك الدول مستويات لم يكن من الممكن تحقيقها من خلال العمل المنفرد، حيث يعمل التكامل الإقليمي على تخفيض تكاليف الإنتاج وتحسين القدرات التنافسية، وزيادة الأرباح وتدويرها بين أعضاء التكتل، ولا سيما في ظل ما يسمى بسلاسل القيمة العالمية، حيث تجمع المنتجات من أماكن مختلفة وتجرى عليها سلسلة من عمليات التصنيع الرخيص والمعفي من الضرائب وأخيراً من الجمارك كنتيجة للمعاملة التفضيلية بين دول التكتل.

بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية واسـتقطاب الشركات المصدرة من شركاء التكتل، الأمر الذي سيعمل على خلـق فرص العمـل؛ ونقـل التكنولوجيا وانتشارها؛ وتصحيـح الاختلالات في الموازين التجارية؛ وتطوير سلاسل القيمـة المضافة، ويساعد ذلك في تدويـل الأنظمة والتشريعات المحلية بما يتلاءم مع نظيراتها على المستوى العالمي، الأمر الذي يسرع بالاندماج في البيئة الاقتصادية العالمية وجني ثمار تحرير التجارة بخاصة الاستفادة من الترابط بين الاستثمار الأجنبي المباشر والتصدير والخدمات.

علاوة علي كل الآثار الإيجابية السابقة الناتجة عن التكامل الإقليمي فإنّ من الملاحظ من تجارب البلدان التي انخرطت في عمليات التكتل حدوث العديد من الآثار الديناميكية السريعة والإيجابية، من بينها تعزيز التنافسية لتحلّ محل الاحتكارات الواسعة التي تعاني منها الاقتصادات العربية، بالإضافة إلى تحسّن مناخ الأعمال والاستثمار كنتيجة لإزاحة العقبات البيروقراطية، مما يدفع بالقطاع الخاص المحلي والأجنبي نحو تبني مشروعات ذات تكاليف رأسمالية ومخاطرة أعلى، ومما لا شك فيه أنّ كلّ ذلك سينعكس على زيادة الكفاءة الإنتاجية، التي تعني تقليل الفاقد وترشيد استخدام الموارد والحصول على أكبر كمية إنتاجية باستخدام أقل كمية من الموارد المتاحة.

التكامل من مستلزمات بقاء العرب

ينخر الفقر في عظام الغالبية العظمى من الجماهير العربية، وعلى الرغم من الكثير من السياسات وخطط مكافحة الفقر التي تبنتها الدول العربية خلال عدة عقود سابقة فإنّ ظاهرة الفقر والفقر المدقع أصبحت أكثر ضراوة خلال العقدين الماضيين، ولا سيما في ظل تزايد أعداد المتعطلين عن العمل على مستوى جميع الدول العربية.

وتشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة البطالة في العالم العربي تبلغ 20% مقابل 6% عالميّاً، ومن المتوقَّع أن يصل عدد العاطلين عن العمل بنهاية العام الحالي إلى ما يزيد عن 50 مليون عربي، الأمر الذي يتطلب استحداث 5 ملايين فرصة عمل سنويّاً.

ارتفاع معدلات البطالة والكثير من الأسباب الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها أدّى إلى ارتفاع نسبة الفقر العربي إلى 14%؛ وارتفاع نسبتي الفقر والبطالة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك فشل سياسات الجزر التنموية المنعزلة التي اتبعتها الدول العربية خلال الـ60 عاماً الماضية.

وعلى حد تعبير تقرير "التكامل سبيلاً للنهضة" الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" التابعة للأمم المتحدة، فإنّ "تأجيل مشروع التكامل العربي إلى حين نهوض كلّ جزء من أجزاء الوطن العربي على حدة، وبالسرعة التي تمليها ظروفه الداخلية، يؤدي إلى استدامة الواقع الراهن الذي يعجز فيه الجزء عن النهوض بنفسه أو ببقية الأجزاء".

يرزح الوطن العربي منذ سنوات تحت وطأة صراعات دموية ودعوات انفصالية وفتن طائفية، أفرزت أمراضاً اقتصادية متوطنة فشلت كلّ محاولات معالجتها، وعلى الرغم من أي دعوى للتكامل في ظلّ الظروف الحالية قد تبدو خيالاً أو ربما ضرباً من الوهم، فإنّ الدعوة للتكامل والتكتل.

وكما يشير التقرير السابق "ستشكل دافعاً ذاتياً للخروج من مشهد الفرقة والتمزق، فالتكامل بين الأجزاء يقوي جميع الأجزاء، والتماسك الاجتماعي سيستعاد عندما يتساوى الجميع في المواطنة والفرص، والتدخل الخارجي لن يُلجَم إلّا بتكامل بين أجزاء الوطن العربي يقيه الاستباحة، ويعزز منعته إزاء الإملاءات المزمنة وتماسكه في مواجهة التحديات".

الحديث عن التكامل والتكتل العربي في ظلّ الصراع المحتدم شرقاً وغرباً وفي ظل أجواء عالمية مشحونة، ليس من الرفاهية الفكرية، وإنما من قبيل بناء قابلية البقاء والتأثير، ومن الواضح أن التكامل الاقتصادي يعد نقطة ارتكاز وانطلاق نحو التكامل الشامل الذي يمتد ليتسع للتكامل الثقافي والمعرفي إلى جانب السلع المادية، وكلها أساسات متوافرة في البنية العربية تحتاج فقط من يبني عليها.

المساهمون