التعليم كالماء والهواء. هكذا حفظنا العبارة الشهيرة التي أطلقها عميد الأدب العربي طه حسين حينما كان وزيرا للمعارف العمومية في حكومة الوفد عام 1951. لم تكن كلمة الرجل الذي دخل مجال السياسة مع تمرده على نظام التعليم بالأزهر الشريف بداية القرن الماضي اختراعا من عنده، فمصر في العهد الملكي، عرفت التعليم المجاني مع بداية حكم الأسرة العلوية.
فقد حرص محمد علي باشا الكبير على إلحاق الطلاب النابهين بـ "الكتاتيب" التي كانت بمثابة مدارس أولية للتعليم غير النظامي، بالتعليم "الميري" الرسمي. فكان الرجل يوجه الطلاب للالتحاق بالمدارس العمومية، لرفع مستواهم في تعلم الحساب والكتابة لتشغيلهم في إدارات الدولة، ويلحق من كان ذا مهارة وبأس في الجيش والمصانع العسكرية التي أنشأها في مصر المحروسة.
وعندما توسعت دولة محمد علي باشا، وأحب أن يبني القصور والموانئ ويشق الطرق والترع، وجه بإنشاء العديد من المدارس في حواضر المدن الكبرى وأرسل البعثات لتعليم النابهين في أوروبا ليعودوا رجال دولة ومساعدين للحكام.
توَجٌه النظام يؤكد أن التعليم تحول إلى سلعة، وبدلا من أن تحافظ الدولة على نظام تعليمي راق تجعله يستعيد أمجاده كما كان في العصر الملكي، أصبح على المواطن أن يدفع الثمن، وإلا سيحرم من التعليم في كل مراحله
ظل التعليم النظامي ينتشر ببطء، بالتوازي مع التعليم الديني في الأزهر الشريف، بدعم خالص من الدولة وتبرعات الأسرة الحاكمة التي أنشأت أقدم المدارس الكبرى مثل السعيدية في الجيزة والإبراهيمية والتوفيقية والخديوية بالقاهرة. وتبارى أثرياء المصريين للتبرع لإنشاء المدارس التي تخدم القاطنين في المناطق المحيطة بأراضيهم أو قراهم ومدنهم.
وحدث سباق بين أفراد العائلة المالكة وهذه الشخصيات، في بناء المدارس امتد أثره إلى بناء الجامعة المصرية، وغيرها من المشروعات العامة كالمستشفيات والمكتبات والجمعيات الخيرية التي ما زال عطاؤها مستمرا حتى الآن.
هكذا بدأ المصريون الحصول على حق التعليم كالماء والهواء الذي تحقق بالفعل في كل المدارس الابتدائية وحتى مرحلة البكالوريا التي تضم السنوات المتوسطة والثانوية.
ظلت الجامعة المصرية بمصروفات بسيطة، يدفعها الأغنياء، ويحصل من يتفوق على حق التعليم المجاني بها، وأيضا غير القادرين الذين يستفيدون من برامج الدعم الاجتماعي. وعندما جاء ضباط 23 يوليو للحكم، لم يكن هذا الشعار إلا واقعا أقروه، لأن قادتهم هم أول من استفادوا من هذا الحق، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك الذين تعلموا في الفترة الليبرالية الملكية مجانا، باعتبارهم جاؤوا من أسر فقيرة للغاية.
حافظ ضباط يوليو على حق المصريين في التعليم المجاني، وإن توسعوا في التسامح مع الفاشلين الذين يرسبون بالسنوات، هربا من المسؤوليات أو التجنيد الإجباري، إلى أن بدأ العصر الحالي الذي رفع شعار "ادفع علشان تأخذ". الشعار الجديد، كشفت تصرفات وزير التربية والتعليم طارق شوقي ومبادئه بإصداره تعليمات يوم 19 سبتمبر الماضي، يحذر فيه الطلاب من عدم دفع الرسوم الدراسية.
وهدد الوزير الطلاب غير الملتزمين بالدفع، بعدم تسليمهم الكتب بمختلف مراحل التعليم العام والفني للعام الدراسي الذي بدأ الشهر الحالي. تهديد الوزير للطلاب وأهلهم جاء غريبا، لتناقضه مع الدستور الذي يمنح المصريين التعليم كحق إجباري على الدولة مجانا.
تعد المصروفات قيمة رمزية، يعفى منها غير القادرين وذوو الحاجات، ولا تحول دون حصول أي طالب على الكتب أو الحق في دخول المدرسة واستكمال العام الدراسي بلا أية ضغوط من الإدارة أو ملاحقة قانونية لأولياء الأمور.
رفعت الحكومة أيديها عن التعليم بالمخالفة للدستور، حيث وجهت نحو 2% من الموازنة العامة للتعليم أي نصف المقدر رسميا، وأغلب الأموال توجه للإنفاق على رواتب المعلمين والموظفين
هكذا عشنا ومررنا بتجارب تعليمية طويلة مع أولادنا في التعليم العام، بل لم تكن مدرسة أو جامعة عامة أو خاصة تستطيع أن تطرد طالبا، لعدم قدرته على سداد المصروفات، وفي أعنف الحالات يتخذ إجراء مع القادر على الدفع، بمنع ظهور نتيجة الامتحانات في نهاية العام، لحين التزامه بدفع المصروفات.
يعلل وزير التربية والتعليم المدلل لدى النظام قراره، بأنه يستهدف توفير المبالغ اللازمة للأنشطة الاجتماعية والفنية والرياضية بالمدارس، وهو يعلم أن أغلب المدارس لا تفتقد للملاعب وأماكن الأنشطة فحسب، بل للفصول الدراسية والمدرسين وللمقاعد والمعدات ودورات المياه وهي الحاجات الأولية التي يحتاجها أي تجمع بشري يحافظ على آدمية الأولاد والبنات على وجه الخصوص.
حجة الوزير الواهية أصبحت بلا غاية، في وقت يدعي رغبته في إعادة الطلاب للمدارس التي خلت تماما من روادها خلال العامين الماضيين، بعد سنوات من خلوها من الطلاب والحياة الدراسية بسبب تدهور الإمكانات بها.
أصبح التعليم في مراكز الدروس الخصوصية وداخل بيوت المدرسين، بينما المدارس خاوية على عروشها، في ظل ميزانية متدهورة لقطاع التعليم بأسره.
ورغم تحمل كثير من الأسر تكاليف تعليم أولادها في المدارس الخاصة، إلا أن غياب الرؤية وإدارة ملف التعليم داخل الأجهزة الأمنية بعيدا عن البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني، أهدرا قيمة هذا المستوى التعليمي أيضا.
رفعت الحكومة أيديها عن التعليم بالمخالفة للدستور، حيث وجهت نحو 2% من الموازنة العامة للتعليم أي نصف المقدر رسميا، وأغلب هذه الأموال توجه للإنفاق على رواتب المعلمين والموظفين.
وفرضت الوزارة إتاوة على المدارس الخاصة، توظف حصيلتها في صرف المكافآت على مديري وموظفي الإدارات التعليمية، فتحولت العلاقة من رقابة دولة إلى مصالح متبادلة، بين الطرفين على حساب الطلاب والآباء والعملية التعليمية.
نشهد دفع المصروفات بالدولار واليورو والإسترليني أسوة بالمدارس الدولية المنتشرة حديثا حول العاصمة. فمتوسط اللسنة الدراسية نحو 12 ألف دولار، بما دفع الجامعات الثلاثين الأخرى لرفع الأسعار بنسب فلكية
تحولت المدارس الخاصة في أغلبها إلى مفرخة للجامعات الخاصة التي شارك في ملكيتها كثير من ملاك المدارس. زاد الطين بلة عندما قرر النظام عدم التوسع في بناء جامعات حكومية، وتخفيض الميزانيات السنوية المخصصة لها، بل طلب منها التبرع ببعض مواردها لصالح صندوق "تحيا مصر".
توسعت الجامعات الحكومية في إنشاء أقسام للتعليم الخاص بداخلها المعروف باسم "الساعات المعتمدة".
رغم التحاق الطلاب بمجموع متساو في نفس المجال إلا أنه أصبح وسيلة للهروب من مشاكل اغتراب الطلاب، والحصول على مساحة أوسع في الكليات، حيث تقل الأعداد، إلا أنه أصبح وسيلة للثراء والتنافس غير البريء بين أساتذة الجامعات.
فالتدريس داخل النظام يخضع لأهواء العمداء وعلاقاتهم الشخصية، بينما الأصل أن يختاروا الأفضل علما وقدرة على العطاء، وكثيرا ما نرى الأساتذة يرفضون مشاركة المعيدين في أعمالهم، حتى ينفردوا بكامل المكافآت عن المنهج، فتضيع فرصة الطلاب في الحصول على تدريبات عملية يكلف بها عادة مساعدو الأساتذة أو يعمل المعيدون بنظام السخرة لدى أساتذتهم الذين يشرفون على دراساتهم العليا.
ثالثة الأثافي حلت عندما شجعت الحكومة عددا من رجال الأعمال والشركات على بناء جامعات خاصة في العاصمة الإدارية الجديدة والمدن السياحية. فرغم أن الجامعات أعلنت عن برامج تعليمية مشابهة لما هو موجود عدا بعض التخصصات المعلنة من قبل الجامعة الألمانية وفروع لجامعة أجنبية، إلا أن الأسعار جاءت منافسة لأغلى الجامعات أو موازية للجامعات الشهيرة في بريطانيا والولايات المتحدة.
عادة ما تكون المغالاة في الأسعار للتخصصات الطبية والهندسية، لكثرة الإقبال عليها، ولكن هذه المرة نشهد دفع المصروفات بالدولار واليورو والإسترليني أسوة بالمدارس الدولية المنتشرة حديثا حول العاصمة. فالمتوسط العام للسنة الدراسية نحو 12 ألف دولار، بما دفع الجامعات الثلاثين الأخرى لرفع الأسعار بنسب فلكية.
توَجٌه النظام يؤكد أن التعليم تحول إلى سلعة، وبدلا من أن تحافظ الدولة على نظام تعليمي راق تجعله يستعيد أمجاده كما كان في العصر الملكي على الأقل، أصبح على المواطن أن يدفع الثمن، وإلا سيحرم من التعليم في كل مراحله.