تمتنع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة عن تمويل صفقات الاستحواذ التي تجري بين الشركات الباحثة عن أموال، وذلك بسبب مخاوفها من تكرار صدمة الديون المتعثرة التي واجهها القطاع المصرفي وتسبب في إفلاس عدد من البنوك خلال الأشهر الأولى من العام الجاري 2023.
وأصبحت مؤسسات مثل "بنك أوف أميركا" و"باركليز"، أكثر تردداً في قيادة تمويل عمليات الاستحواذ الأكثر خطورة، خوفاً من أن القروض المتعثرة يمكن أن تعلق في ميزانياتها العمومية، حسب ما قال مصرفيون ومسؤولون تنفيذيون في عمليات الاستحواذ لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، أمس الأحد.
وقد عانت مصارف كبرى العام الماضي من أجل العثور على مستثمرين مستعدين لشراء الديون المرتبطة بشراء إيلون ماسك لموقع تويتر وصفقات أخرى لشركات "سيتريكس" العاملة في مجال الأنظمة التكنولوجية، و"نيلسن" المتخصصة في تحليل البيانات والأبحاث وقياس السوق، و"تينيكو" العاملة في تصنيع قطع غيار السيارات.
وقال رئيس استراتيجية أسهم البنوك الأميركية في مؤسسة "آر بي سي كابيتال ماركتس" جيرارد كاسيدي، إن البنوك ربما تشعر بالقلق من أن الصفقات المعروضة الآن يمكن أن تعاني من نفس المصير، مضيفا: "هناك أوقات تريد فيها أن تدفع لموظفيك مقابل لعب الغولف وليس تقديم القروض.. قد يكون هذا أحد تلك الأوقات".
وفي ظل اعتماد هذا التوجه، تراجع ترتيب بنك أوف أميركا في تمويل عمليات الاستحواذ إلى المركز الثاني والعشرين هذا العام، مقابل الترتيب السادس العام الماضي والرابع في 2021، حيث عمل على تقديم قروض لثماني عمليات استحواذ فقط هذا العام، مقابل 28 تمويلاً في 2022 و71 تمويلاً في العام السابق له وفقاً لشركة ديلوجيك للأبحاث. كما انخفض بنك باركليز من المركز الثالث العام الماضي إلى المركز الخامس عشر، حسب ما أظهرت بيانات "ديلوجيك".
انحسار عمليات الدمج والاستحواذ
وأظهرت بيانات "ديلوجيك" المتخصصة انحسار عمليات الدمج والاستحواذ العالمية بنسبة 36% في الربع الثاني لهذا العام على أساس سنوي. وانخفضت القيمة الإجمالية لعمليات الدمج والاستحواذ في تلك الفترة إلى 732.82 مليار دولار، مقابل 1.14 تريليون دولار في الربع الثاني من 2022، حيث أبقت معدلات الفائدة المرتفعة والمواجهة بشأن سقف الدين الأميركي حينها صانعي الصفقات في حيرة من أمرهم.
وتتجنب البنوك الكبرى الصفقات التي يمكن أن تؤدي إلى خفض تصنيفاتها من قبل وكالات التصنيف الائتماني، الأمر الذي قد يؤثر بشكل سلبي على نشاطها، وفقاً للمصرفيين.
وفي مقابل عزوف البنوك الكبرى على تمويل عمليات الاستحواذ، تقوم صناديق الائتمان الخاصة التي تديرها شركات مثل "بلاكستون"، و"سيكسث ستريت" (Sixth Street)، و"بلو آول كابيتال" (Blue Owl Capital)، بترتيب أعداد متزايدة من القروض لهذا الغرض بشكل مباشر. لكن ذلك أدى إلى ارتفاع العائد الذي تطلبه هذه الصناديق على الديون، وفق أحد كبار المصرفيين في أسواق رأس المال. لكن مراقبين اعتبروا أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت البنوك قد فقدت شهيتها لتمويل الديون المحفوفة بالمخاطر، أو اختاروا للتو عدم المشاركة في الصفقات القليلة التي تمت هذا العام.
وتشهد المنافسة على الصفقات الجديدة تباطؤ لافتا. وقال مصرفيون إنهم يراقبون عن كثب التزامات الإقراض الخاصة بالصفقات الجديدة لمعرفة أي من منافسيهم سيعود. ولجأت شركة الاستثمار الأميركية "كيه كيه آر" إلى مجموعة من البنوك بقيادة "جيفريز" لتمويل قرض بقيمة 1.1 مليار دولار للاستحواذ على دار نشر الكتب "سايمون آند شوستر" (Simon & Schuster).
مع ذلك فإن الرئيسة التنفيذية لبنك باركليز في ألمانيا، إنغريد هنغستر، توقعت انتعاش عمليات الاندماج والاستحواذ في النصف الأول من العام المقبل 2024، مع عودة الثقة إلى سوق التمويل بالقروض. وقالت هنغستر في مؤتمر نظمته "بلومبيرغ" تحت عنوان "مستقبل التمويل" في فرانكفورت، منتصف الشهر الماضي، إن البنك يجري حالياً مفاوضات أكثر عدداً مع كل من المستثمرين الاستراتيجيين والشركات المالية بشأن عقد صفقات، بعد أن ساهم وصول أسعار الفائدة إلى ذروة ارتفاعها في تخفيض حدة التقلبات.
لكن هذا الرأي لا يروق لكثير من المحللين المصرفيين، في ظل المخاطر المالية المتزايدة التي يواجهها القطاع المصرفي في الولايات المتحدة بشكل خاص، حيث يواجه القطاع منذ بداية العام الجاري أزمة ناتجة عن السياسة النقدية الأميركية التي ركزت على رفع معدلات الفائدة لمواجهة التضخم.
وتسببت الخسائر التي تعرضت لها البنوك نتيجة رفع أسعار الفائدة في أن شهد العالم أزمة تعثر في البنوك الأميركية بدأت مع انهيار بنك "سيليكون فالي" في العاشر من مارس/آذار الماضي، تلاه انهيار ثلاثة مصارف أخرى هي "سيغنتشر" و"سيلفر غيت" و"فيرست ريبابلك". كما طاولت ارتدادات هذه الحمى القارة الأوروبية، ليضطر "يو بي إس" السويسري إلى الاستحواذ على منافسه الرئيسي "كريدي سويس" المتعثر في عملية دمج نظمتها السلطات السويسرية لمنع أي اضطرابات أخرى في سوق الخدمات المصرفية العالمية.
وتُعد هذه الاضطرابات الأكبر من نوعها منذ عام 2008 عندما انهارت الأسواق المالية حول العالم، قبل أن تتدخل الإدارة الأميركية بحزم إنقاذ واسعة أعادت القطاع المصرفي إلى التعافي. لكن الوضع هذه المرة يبدو أكثر قتامة. إذ تواجه الولايات المتحدة ركوداً محتملاً يؤثر بشكل كبير على القطاع المصرفي.
خطر الركود التضخمي
ويعتقد الخبير الاقتصادي محمد العريان أن "فرص نجاة اقتصاد واشنطن من الركود تتقلص" موضحاً أن ذلك يرجع إلى الارتفاع المتتالي والمكثف في أسعار الفائدة، إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط، وأخيراً ارتفاع قيمة الدولار. وأشار العريان في مقال نشرته "فاينانشال تايمز" أخيراً، إلى أن ارتفاع أسعار النفط وسط الطلب القوي واستمرار خفض الإنتاج من قبل مجموعة "أوبك+" والمخزونات المستنفدة بشدة يزيد من حدة المخاوف، إذ إنه قد يؤدي خطر ذلك إلى ارتفاع التضخم لمجموعة واسعة من السلع والخدمات، لافتا إلى أن ذلك يثبط النمو وتزيد من خطر الركود التضخمي، ما يتسبب في أخطار تهدد الاستقرار المالي والائتماني.
وحتى الآن، تسببت الفائدة المرتفعة على الدولار في زيادة عائد سندات الخزانة الأميركية بمستويات لم تكن في حسبان أسواق المال الدولية وبنوك الاستثمار، من 2% في بداية عام 2022 إلى فوق 4.8% حالياً. وتكبدت المصارف خسائر ضخمة في أميركا وأوروبا من ارتفاع عائد السندات.
وحسب بيانات "فاينانشال تايمز" قدرت الخسائر الدفترية التي تكبدتها البنوك الأميركية حالياً في سوق السندات قرابة 400 مليار دولار. وهذه الخسائر أعلى بنسبة 10% عن تلك التي تكبدها النظام المصرفي الأميركي في بداية العام الجاري، وتسبب في انهيار مصرف "سيليكون فالي".
ومنذ 30 يونيو/حزيران الماضي، ارتفع العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات من 3.818% إلى 4.572%، حسب مؤشر بلومبيرغ للسندات، الذي يتكون إلى حد كبير من سندات الخزانة وأوراق القروض العقارية المدعومة من الحكومة.
وسبق أن توقع بنك "غولدمان ساكس" نمواً في الأرباح في عام 2024 بمقدار 5% في الولايات المتحدة وأوروبا، و6% في اليابان، و17% في آسيا، من أساس منخفض في عام 2021.
وكانت هيئة الإشراف على المصارف الأميركية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) قد دعت مؤخراً لاتخاذ خطوات لتقوية رأس المال الإضافي في البنوك الكبرى، بغرض المساعدة في تعزيز مرونة النظام المصرفي وقدرته على امتصاص الأزمات المصرفية في المستقبل، وذلك بعد سلسلة من إخفاقات البنوك متوسطة الحجم والصغيرة التي شهدتها الولايات المتحدة في النصف الأول من هذا العام.