الاقتصاد العربي في مفترق طرق

08 يوليو 2024
منصة النفط البحرية السعودية "مرجان 2" في الخليج، مارس 2003 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تباين اقتصادي بين الدول العربية**: الناتج المحلي الإجمالي العربي بلغ 3.68 تريليونات دولار في 2022، مع تباين كبير بين الدول النفطية الغنية في الخليج وبقية الدول العربية. الدول النفطية الخمس تمثل 61.3% من الناتج الإجمالي العربي.

- **هيكل التجارة الخارجية**: الصناعات الاستخراجية شكلت ثلث الناتج الإجمالي العربي، بينما لم تتجاوز الصناعات التحويلية 11.4%. إجمالي الصادرات بلغ 1411 مليار دولار، 67.9% منها صادرات وقود، والتجارة البينية العربية لم تتجاوز 9.3%.

- **تحديات وفرص تنويع الاقتصاد**: تراجع الريوع النفطية يشكل تحدياً وفرصة لتنويع الاقتصادات العربية، مع التركيز على الاستثمارات المنتجة، تقليل الهيمنة الخارجية، وتعزيز التعاون العربي لتحقيق التنمية المستدامة.

رغم الصورة النمطية للثري العربي في السينما الأميركية، فإن الواقع الحقيقي في الاقتصاد العربي بمجموعه يخالف هذه الصورة، خصوصاً إذا استبعدنا منه بضع دول نفطية غنية قليلة السكان بالخليج العربي، حيث يتكشّف حينها الواقع المُزري لهامشية وفقر وتخلّف المنطقة، حتى بالقياس إلى كثير مما كان يُحسب ضمن العالم النامي الفقير منذ بضعة عقود لا غير.

لا يتجاوز كامل الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العربي 3.68 تريليونات دولار عام 2022، بنسبة تقل عن 3.65% من الناتج الإجمالي للعالم البالغ 101 تريليون دولار في العام نفسه، رغم أن العرب يمثّلون 5.62% من سكان العالم، ويعيشون في نحو 9.6% من مساحته.

وتصبح الصورة أسوأ بتفكيك التكوين النسبي لذلك الناتج الإجمالي من جهة توزيعه ومصادره، إذ تمثل حالة الدول العربية كثيفة السكان محدودة الموارد الواقع الحقيقي للاقتصاد العربي، بمعزل عن مظهر الثراء الخادع الذي تخلقه الريوع النفطية في مجموعة دول الخليج قليلة السكان والغنية بالموارد، فالدول النفطية الخمس الأغنى في المنطقة، السعودية والإمارات وقطر والكويت وعمان، تمثل وحدها نحو 61.3% من الناتج الإجمالي العربي، ونصفها تقريبًا يرجع للسعودية وحدها، وبضم العراق والجزائر باعتبارهما دولتين نفطيتن أقل ثراءً؛ ترتفع نسبة المجموعة النفطية إلى 73.5% من الناتج الإجمالي العربي، بينما لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لأيّ دولة عربية غير نفطية حاجز 100 مليار دولار سوى في حالتي المغرب البالغ عدد سكانها 37 مليوناً، ومصر التي تمثّل وحدها ربع المواطنين العرب، وتمثّلان معاً 16.6% من الناتج الإجمالي في الاقتصاد العربي ليبقى نحو 10% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العربي لبقية دول المنطقة. يعطينا ذلك فكرة واضحة عن مدى الضعف الشديد لاقتصاداتها.

وحتى على أساس هذا الناتج الإجمالي المنتفخ بالمكوّن النفطي غير المُستدام، والمُتركّز في بضعة دول، بلغ متوسط نصيب المواطن العربي عموماً من الناتج الإجمالي بالأسعار الجارية 8563 دولارا عام 2022، يقل بنحو 50% عن نظيره العالمي البالغ 12688 دولاراً في نفس العام؛ ما يعني أنه أسوأ بكثير على مستوى مجموعة الدول العربية غير النفطية، فضلاً عن عدم استدامته لمُجمل المنطقة في حالة تراجع عوائد الموارد النفطية لأيّ سبب.

وعلى المستوى القطاعي، بلغت نسبة الصناعات الاستخراجية في العام 2022 ما يقرب من ثلث ذلك الناتج بنسبة 29.5% عام 2022، ما يبدو أكثر وضوحاً على المستوى القُطري، حتى في بعض الدول العربية كبيرة الحجم والسكان، بمستويات تصل إلى 30.8% من الناتج الإجمالي في الجزائر، و33.1% في السعودية، و38.3% في عمان، وصولاً إلى 48.9% في ليبيا، و56.4% في العراق.

في المقابل، لم تتجاوز نسبة الصناعات التحويلية 11.4% فقط من ذلك الناتج، ما يرتفع على المستوى القُطري إلى مستويات 21.4% من الناتج الإجمالي في البحرين كأعلى نسبة بين كافة الدول العربية، و17.4% منه في الأردن، و16.1% في المغرب، و16% في مصر، و15.6% في السودان، و14.7% في السعودية، و13.8% في تونس، و12.9 في سوريا، و9.2% في الإمارات، وصولاً إلى مستويات مأساوية شديدة الانخفاض، غير منطقية ولا مقبولة في دول كبيرة نسبياً، حجماً وسكاناً، كما هو الحال في الجزائر بنسبة 3.7% من الناتج الإجمالي، و1.6% في العراق.

وبلغ إجمالي الصادرات العربية نحو 1411 مليار دولار، بنسبة 5.7% من الصادرات العالمية عام 2022، مقابل إجمالي واردات نحو 936 مليار دولار، بنسبة 3.7% من الواردات العالمية، ما يبدو إيجابيًا من الوجهة الكمّية، لكن باستبعاد صادرات الوقود البالغة 67.9% من إجمالي الصادرات؛ يتضح مدى عدم استدامة هذا الهيكل التجاري، ومدى تأخّر واختلال تكوينه النوعي، الذي لا تتجاوز صادرات الصناعة التحويلية فيه نسبة 21.7% من إجمالي الصادرات.

أما على المستوى العربي، فلم تتجاوز التجارة البينية العربية 131 مليار دولار، بنسبة 9.3% فقط من إجمالي الصادرات العربية؛ ما يتسق مع هيمنة تصدير الموارد الطبيعية إلى الدول الصناعية المتقدمة على هيكل التجارة الخارجية العربية، ويكشف مدى تفكّك الاقتصادي العربي بسبب التشابه الضار بين أغلب اقتصادات المنطقة؛ الناتج عن ضعف التخصّص وتقسيم العمل فيها، وبطبيعة الحال فيما بينها؛ تماشياً مع بقائها في مستوى منخفض ومتأخر من التطوّر التقني والاقتصادي.

التحدّي والفرصة: تراجع الريوع النفطية

اتخذت نسبة الريوع النفطية من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العربي اتجاهاً عاماً هابطاً منذ بدأت طفرتها أواسط سبعينيات القرن الماضي، فانخفضت من ذُراها البالغة 46.9% و57.6% منه عاميّ 1974 و1975 على التوالي، إلى ذُرىَ أقل بلغت 32.9% و32.7% منه عاميّ 2008 و2011 على التوالي، لتتراوح ذُراها مؤخرًا بين 21.1% و17.1% منه عاميَ 2018 و2021 على التوالي.

وترافق ذلك التراجع مع تقلّب شديد في إجمالي الصادرات العربية؛ بما يؤكد غلبة عدم الاستقرار والاستدامة عليها، كما أظهر ميلاً عاماً أوّلياً لتراجعها منذ عام 2012، حيث انخفضت من 1.52 تريليون دولار إلى 954 مليار دولار بين عاميّ 2012 و2016، لتعاود الارتفاع إلى 1.29 تريليون دولار عام 2018، ثم تنخفض مُجدداً إلى مستوى أدنى من السابق عند 937 مليار دولار عام 2020، قبل تحسّنها مرةً أخرى عام 2022 على ما سلف ذكره، بما يشير إلى بوادر ميل للتراجع، تؤكده التقديرات المتخصصة المختلفة بوصول الطلب على الوقود الأحفوري إلى ذروته التاريخية أواخر العقد الحالي، قبل أن يبدأ بالتراجع الصافي المستمر.

هذا الاتجاه لتراجع الريوع النفطية، المرتبط ببوادر الميل لتراجع الصادرات الاستخراجية العربية إلى الخارج، يجمع بين ما هو إيجابي وما هو سلبي.

فمن جهة إيجابيته، فهو يعني، مع استمرار نمو الناتج الإجمالي العربي، تحقّق زيادات فعلية بذلك الناتج خارج هذه الريوع، من قطاعات سلعية أخرى أكثر إنتاجية؛ بما يعني مزيداً من النمو الحقيقي بالقدرات الإنتاجية والاستقلالية الاقتصادية تجاه الخارج، فضلاً عن تحقيق المزيد من الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية.

أما من جهة سلبيته، فهو يعيد تأكيد، بجمعه التقلّب الشديد في نسب تلك الريوع وتراجعها الصافي كاتجاه عام عبر مُجمل الفترة، عدم رشادة الاعتماد الزائد على هذه الريوع، وحتمية تسريع وتيرة تنويع الاقتصاد العربي والاستعداد لنهاية الطفرة النفطية التي أصبحت أقرب من وشيكة.

تتضح أهمية ذلك خصوصاً إذا قارنا هذه النسبة بنظيرتها على مستوى العالم، فلم تتجاوز الأخيرة في أقصى ذُراها طوال العقود الخمسة الأخيرة نسب 4.8% و3% و2.8% و1.5% و1.3% من الناتج الإجمالي العالمي لأعوام 1980 و2008 و2011 و2018 و2021 على التوالي، بما يكشفه ذلك من غرابة واستثنائية وضع الاقتصاد العربي، التي ستنتهي عاجلاً لا آجلاً؛ بما تعنيه من حتمية تطبيع ذلك الاقتصاد، بالانتقال من الاعتماد المُفرط على هذه الريوع إلى مواجهة استحقاقات العصر بجهاز إنتاجي حديث يعتمد منطق التصنيع التحويلي المدفوع بالتكنولوجيا مفتوحة الآفاق، لا الاستخراج الطبيعي الناضب عاجلاً او آجلاً.

موقف
التحديثات الحية

يدفع هذا التراجع شبه المؤكد عدة روافع هيكلية، أولها التراجع الحتمي في احتياطيات النفط والغاز نفسها، حتى وإن ظلّت أكثر من كافية لإثراء بعض الدول العربية الأصغر حجماً وسكاناً، وثانيها الاتجاه المُتزايد لاستخدام الطاقة المتجددة بعيداً عن الوقود الأحفوري؛ مع تحسّن طرائق إنتاجها وانخفاض تكاليفها، مقابل الاتجاه لنضوب الأخير أو على الأقل شحّه بدرجة كافية لرفع تكلفته النسبية وتقليص عوائده الصافية وربما جدواه الاقتصادية في وقت ما، فيما ثالثها الاتجاهات المتزايدة للحفاظ على البيئة المتدهورة والمخاوف من العواقب الكارثية للتغيّر المناخي، بما تمثّله من حافز إضافي للانتقال لأشكال الطاقة النظيفة وتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري.

أما رابع الروافع فهو الاتجاهات الجيوسياسية لانقسام العالم ما بين شرق وغرب؛ بما ستؤدي إليه من دفع للقوى الصناعية المختلفة لمحاولة الاستقلال الطاقوي؛ بتقليل اعتمادها على استيراد الطاقة من دول أخرى؛ باعتباره مصدراً للضعف والتهديد الاستراتيجي، وتأتي خامساً احتمالات الأزمة الاقتصادية الكبرى التي يتوقّعها العالم ويعيش مخاوفها فعليًا؛ بما ستتضمّنه من ركود حاد محتمل سيقلّل الطلب على الطاقة مع تراجع الإنتاج؛ بدرجة قد تخفض أسعار الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة بدرجات معتبرة.

ويشكّل هذا التراجع تحدياً لكامل المنطقة، فرغم تركّز هذه الريوع في مجموعة دول صغيرة محدودة السكان، فإن أغلب دول المنطقة تستفيد بطريقة أو بأخرى من تدفّق ودوران جزء منها عبر قنوات تحويلات العاملين بالخليج والاستثمارات الخليجية وغيره؛ ما يعني تضرّر كامل المنطقة من تراجعها، وضرورة استعدادها لتعويض تراجعها من خلال قنوات أخرى، يشمل ذلك الدول النفطية نفسها، التي مهما راكمت من فوائض عبر السنوات، فإن عدم تحويلها لاستثمارات مُنتجة وضمن تحوّلات قطاعية طويلة الأجل؛ سيجعل أكبرها يعاني على الأقل تراجعاً معتبراً في مستويات معيشة شعوبها.

من جهة أخرى، يمثّل نفس التراجع فرصة، إذا استجابت له الدول العربية بالطريقة الصحيحة، فمن جهة هو يقّلل نسبياً من ضغط الهيمنة الخارجية على المنطقة، الهادف لربطها بالمصالح الاستراتيجية للقوى العالمية؛ ما يعطيها مساحة أوسع للمناورة والاستقلال النسبيين، كما يدفعها اضطراراً مع تغيّر مستويات الدخول وهياكل الأسعار، المحلية والدولية على السواء، للاهتمام بصورة أكبر بالقطاعات الإنتاجية المحلية وتلبية الاستحقاقات التنموية التاريخية المتأخّرة، المُتمحورة حول التصنيع المستقل، وأخيراً يدفع بهذه الدول لمحاولات التعاون والتكامل السوقي والإنتاجي للاستفادة من مزايا الحجم وتقارب الظروف والأوضاع، فضلاً عن السياق الاجتماعي المؤاتي من وحدة اللغة والثقافة المشتركة.

يعني ذلك حتمية تغيير الإطار والمنطق الحاكمين عملَ الاقتصاد العربي باعتبار أن جوهر أزمته ليس في الريوع النفطية بحدّ ذاتها، فقد ساهمت هذه الريوع في تحسين مستويات المعيشة والبنية التحتية ورأس المال البشري وتحقيق طفرة حضارية عموماً انتقلت بأغلب المنطقة عقوداً إلى الأمام، واستثنتها من واقع ومصير أغلب دول أفريقيا جنوب الصحراء، لكن تكمن المشكلة في طريقة التعاطي مع هذه الثروة، بدءًا من طريقة توظيفها إما في خدمة بناء قدرات إنتاج محليّة مُستدامة أو الاكتفاء بتصديرها وإهدار العوائد في الاستهلاك المُفرط وإعادة التدوير في أسواق المال الدولية، وكما يقول علي القادري في كتابه "التنمية العربية الممنوعة: ديناميات التراكم بحروب الهيمنة" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020، ترجمة كاتب السطور)، إن النفط نفسه لا يفسّر التأخر الاقتصادي، بل يكمن التفسير في تبعية غير مألوفة، يقوم ضمنها المسؤول عن التنمية (تحالف الطبقة التجارية والإمبريالية بقيادة أميركا) بتفكيك العمل وإعادة تدوير ثروة المنطقة خارجها، بدلاً من داخلها.

يشترط ذلك تعاوناً عربياً شاملاً، فكما أشار الاقتصادي راجنار نيركسه، لا تحفّز الأسواق الصغيرة سوى الاستثمار الصغير، فيما تحفّز الأسواق الكبيرة الاستثمار الكبير؛ ما يعني ضرورة سعي الدول العربية، التي يعاني جُلّها من صِغر الحجم ومحدودية الأسواق بمقاييس الصناعة والاقتصاد الحديثين، إلى درجة ما من التعاون التجاري ودمج الأسواق، ولو بشكل تدريجي يبدأ ببعض القطاعات والسلع على الأقل، كما كانت بداية الاتحاد الأوروبي المتواضعة بمجرد جماعة للفحم والصلب ووحدة جمركية في خمسينيات القرن الماضي.

ومما قد يحفّز ويدعم هذا الطموح هو اتجاه التجارة الدولية للتراجع منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، والذي يرجح تفاقمه مع ما يختمر من أزمة عالمية جديدة، ستضعف قبضة منظومة الهيمنة الرأسمالية، وتسمح بمساحة أكبر من التغيّرات في هياكل التجارة وأنماط التبادل العالمية، فضلاً عن إعادة صياغة العلاقات الإقليمية والدولية؛ بما يعنيه ذلك من إمكانات صعود قوى جديدة وتكوّن تحالفات وتكتّلات مختلفة، قد تكون ضمنها فرصة العرب التاريخية، وربما الأخيرة، للحاق بالعصر واحتلال مكانتهم المأمولة والمُستحقة.

المساهمون