تُعتبر تركيا إحدى الدول شديدة الأهمية في أوروبا، للعديد من الأسباب الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن عضويتها في حلف الناتو تضعها تلقائياً على الجبهة الأوروأميركية، إلا أنه من الواضح، وبعد مرور أكثر من أسبوعين على الحرب على أوكرانيا، أن الموقف التركي تطوّر من الأزمة حتى أصبح أكثر وضوحا مع مرور الوقت، الأمر الذي دفع البعض إلى وصف ذلك الموقف من الحرب في البداية تارة بالارتباك، وأخرى بالتباطؤ المتعمد، وثالثة بالعقلانية الرشيدة، وفق تشابك المصالح المعقد مع جميع الأطراف.
سريعاً، اعترفت تركيا بأن ما يجري على الأراضي الأوكرانية هو عمليات حربية تستدعي تطبيق أحكام اتفاقية مونترو، التي تقضي بإغلاق المضائق أمام السفن الحربية للأطراف المتحاربة، وهو ما يعني كذلك منع مرور السفن من الدول غير الإقليمية إلى البحر الأسود. وفي نفس الوقت، لم تصبح تركيا طرفًا في العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت على روسيا، ولم يُغلق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الروسية، وهو ما فسّره مراقبون بمحاولة أنقرة الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الجانب الروسي.
تشابك اقتصادي معقد بين تركيا وأطراف الحرب
تعاني تركيا منذ فترة ليست بالقليلة من أزمة الانخفاضات المستمرة لسعر صرف الليرة، وهو الأمر الذي أجج معدلات التضخم المحلية لتتجاوز 50% خلال الأشهر الماضية، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في منتصف العام القادم، ومع تزايد الأزمات العالمية، وفي مقدمتها التضخم، يبدو أن تعامل الأتراك مع الأزمة الأوكرانية مدفوع بأسباب اقتصادية إلى حد كبير. وأشارت مؤخرا إحدى نتائج استطلاعات الرأي المحلية إلى احتلال العامل الاقتصادي المركز الأول لدى أكثر من 70% من الجمهور المستطلع.
وتشير المؤشرات الاقتصادية إلى تشابكات معقدة بين الاقتصاد التركي من جانب، وأطراف الحرب على أوكرانيا من جانب آخر، سواء المنخرطين في المواجهة المباشرة وهما روسيا وأوكرانيا، أو غير المباشرة مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
فمن المعروف أن دول الاتحاد الأوروبي هي الشريك التجاري الأول للدولة التركية، ورغم نجاح تركيا في تنويع أسواق صادراتها خلال الأعوام العشرة الأخيرة، إلا أن أسواق الدول الأوروبية لا تزال تستوعب أكثر من 50% من تلك الصادرات، بالإضافة إلى كونها المصدر الأول للاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة نحو تركيا، باستحواذها على 60% من جملة تلك الاستثمارات في العام الماضي، علاوة على ملايين السياح الأوروبيين الذين يعدّون أحد أهم مصادر الدخل الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة التركية.
كما أن العلاقات الاقتصادية مع الجانب الروسي تبدو متشابكة هي الأخرى، حيث أظهرت بيانات هيئة الجمارك الفيدرالية الروسية بلوغ قيمة التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2021 ما يزيد عن 33 مليار دولار، مسجلا ارتفاعاً بنسبة 57%، مقارنة بعام 2020، وبلغت قيمة الصادرات من روسيا إلى تركيا 26.5 مليار دولار (بزيادة 66.4%)، في حين بلغت الواردات من تركيا 6.5 مليارات دولار، بزيادة 27.4%.
وجاءت الخضروات والفواكه الطازجة والحمضيات والعنب والطماطم، على رأس الصادرات التركية إلى روسيا، وهي سلع سريعة التلف سيتضرر منتجوها الأتراك بشدة عند توقف تصديرها، كما ستحدث نقصاً هاماً في السوق الروسية حال غيابها، بخلاف اعتماد تركيا على استيراد القمح من روسيا. كما أنه من اللافت كذلك ما أعلنه رئيس اتحاد مقاولي البناء في تركيا عن وجود مشروعات تنفذها الشركات التركية في الداخل الروسي، تقدّر بنحو 20 مليار دولار.
كما استقبلت تركيا نحو 5 ملايين سائح روسي في العام المنصرم، مقارنة بنحو 4.5 ملايين في عام 2020، وهو ما يمثل 20% تقريبا من إجمالي السياح القادمين إلى تركيا. وتجدر الإشارة إلى وجود موجة من إلغاء الحجوزات والصفقات السياحية من الجانب الروسي، رغم مرور بضعة أيام فقط على الحرب، وهو ما يشير إلى احتمالية تأثير سلبي كبير على الإيرادات السياحية التركية، خاصة حال اتساع أمد الحرب.
كل ذلك، بالإضافة إلى مرور "خط السيل التركي"، وهو المشروع الاقتصادي العملاق المشترك بين البلدين، والذي يقوم على نقل الغاز الروسي إلى كل من تركيا ودول جنوب وشرق أوروبا عبر أنابيب ناقلة تمر من البحر الأسود وعبر الأراضي التركية، وهو ما يعني أن تركيا التي تغطي احتياجاتها بالكامل من الطاقة تقريباً عبر الاستيراد، والمتطلعة لشغل مركز ما بين الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم تعتمد بنسبة كبيرة على الغاز الروسي، الذي استوردت منه 33.6 مليار متر مكعب عام 2020، من أصل إجمالي استهلاك في نفس العام وصل إلى أكثر من 48.1 مليار متر مكعب.
وهو الأمر الذي يظهر بجلاء مدى التشابك الاقتصادي المعقد بين البلدين. ويجب ألا ننسى في ذات الإطار إمداد روسيا لتركيا بصفقة صواريخ إس 400 بعد التعنت والمماطلة الأميركية.
أما عن العلاقات الاقتصادية التركية الأوكرانية فتوجد تطورات ملفتة في هذا الملف، حيث نجح التعاون الاستراتيجي بينهما في تعزيز الشراكة الاقتصادية، حيث تحتل تركيا المرتبة الخامسة في قائمة كبار الشركاء التجاريين لأوكرانيا، وبلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو 7.42 مليارات دولار عام 2021، وبلغت الصادرات التركية إلى أوكرانيا 2.1 مليار دولار عام 2020 وارتفعت إلى 2.9 مليار دولار عام 2021، بزيادة 43%، بينما ارتفعت الواردات بنسبة 87%، من 2.59 مليار دولار عام 2020 إلى 4.52 مليارات دولار عام 2021.
كما بلغ عدد الشركات التركية العاملة في أوكرانيا نحو 600 شركة، تدر 2.5 مليار دولار سنويًا على الاقتصاد الأوكراني، كما بلغ عدد السائحين الأوكرانيين في تركيا 2.1 مليون سائح في العام الماضي، وبذلك يشكل مجموع السياح الأوكرانيين نحو 7% من مجمل أعداد السياح الوافدين لتركيا.
كما أن تركيا تعتمد على أوكرانيا في استيراد نسبة لا يستهان بها من احتياجاتها من الذرة والقمح وزيت الطعام وبذور عباد الشمس وبعض المعادن ومواد ومنتجات أخرى تستعمل في الصناعات الغذائية، بينما تصدر لها الحمضيات والعنب والطماطم وغيرها من الخضروات الطازجة والفاكهة. ويجب ألا ننسي في هذا الإطار دور المسيرات التركية الكبير في الحرب الدائرة، وهو الدور الذي عبّر عنه الأتراك بكونه صفقات تجارية ليس أكثر.
الموازنة بين الأطراف إلى متى؟
تشير العلاقات الاقتصادية المتشابكة والمعقدة بين أطراف الحرب على أوكرانيا بوضوح إلى تضرر كبير للاقتصاد التركي، حال اتخاذ موقف حاد ومباشر يعادي أحد الأطراف، ويفسر ذلك بعضاً من التوازن في القرارات التركية حتى الآن، وتصميم أنقرة على القيام بدور الوسيط الساعي إلى إيقاف الحرب، خاصة مع عدم الضغط الكبير من الجانبين الأوروبي والأميركي حتى الآن.
لكنه من المتوقع، في حال طال أمد الحرب، أن تضغط الأطراف المختلفة بغية المزيد من الوضوح، خاصة إذا استخدم الروس أساليب عسكرية أشد فتكا أو انتهاكا لحقوق المدنيين الأوكرانيين، وهو الأمر الذي سيجبر الإدارة التركية على مراجعة سياسة التوازن الحالية ومحاولة البحث عن قرار يحقق أقل الأضرار الممكنة.
لا شك أن الحرب على أوكرانيا لم تكن في صالح الاقتصاد التركي، كما أنها في وقت شديد الحساسية مع اقتراب نسبي لموعد الانتخابات الرئاسية، وبدأت إرهاصات تأثر السوق المحلية التركية من خلال نقص أو ارتفاع لأسعار بعض السلع، وكلما مر الوقت ستزيد الآثار السلبية على الاقتصاد التركي الذي من المؤكد سيتراجع معدل نموه مقارنة بالعام الماضي، وهو الأمر الذي سيضع الإدارة الحالية في موقف شديد الصعوبة يحتم سرعة رسم السيناريوهات المختلفة للخروج بأقل الأضرار، ومن المؤكد أن خبراتها المتراكمة لمواقف سابقة أكثر حدة ستساعدها كثيرا في هذا الإطار.