بين أزمة اقتصاد إيراني وطموح سعودي متنامٍ، جاء اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، بوساطة صينية، استثمرت جولات تشاور جرت على مدار عامين شهدها العراق وعُمان، وضمن سياق إقليمي ودولي متغيّر، مثلت جهود الوساطة اختراقا سياسيا صينيا جديدا للشرق الأوسط، ضمن سعيها لتحقيق نفوذ أوسع، أحد مظاهره إعلان مبادرة حول السلام العالمي.
وربما يكون دور بكين أقل تكلفة للرياض من دور الولايات المتحدة، والتي تتلقى مليارات الدولارات في شكل استثمارات وصفقات شراء أسلحة، ضمن شراكة أمنية وظفت سعيا إيرانيا للتوسع والنفوذ.
لكن مع ذلك، لا يخلو دور الصين من عوائد وأهداف، بينها تأمين احتياج النفط، وزيادة مشروعات استثمارية مع دول الخليج. بدا هذا واضحاً من قبل الاتفاق، من مقال للرئيس الصيني شي جين بينغ، نشرته صحيفة الرياض في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وحمل رسائل لتعزيز التعاون الاقتصادي، مشيرا إلى اتفاقات الشراكة الاستراتيجية الموقعة مع 12 دولة عربية، ومشروع "الحزام والطريق" مع 20 دولة أخرى، والذي سيتخذ فرصاً للتوسع بناء على المستجدات، خاصة أن بكين تشير إلى مواءمة المشروع مع رؤية السعودية 2030.
ربما يكون دور بكين أقل تكلفة للرياض من دور أميركا، والتي تتلقى مليارات الدولارات في شكل استثمارات وصفقات شراء أسلحة، ضمن شراكة أمنية وظفت سعيا إيرانيا للتوسع والنفوذ
بالنسبة للرياض، هناك مشروعات صينية في مجال الطاقة، كما مصفاة ينبع، إلى جانب مشروعات البنية التحتية والاتصالات. كما تحدّث جين بينغ عن رفض التدخل الخارجي، في إشارة إلى ضغوط واشنطن المتعلقة بملفات سياسية، وهو نفس الخطاب الذي ترحب به إيران المحاصرة بعقوبات اقتصادية وأزمة سياسية، تدفعها إلى خفض التوتر مع جيرانها، وفي الأساس الرياض.
وقد شهدت العلاقات الخليجية الإيرانية عودة بشكل تدريجي تزامن مع جولات التشاور الإيراني السعودي. وقبل عقد الاتفاق، مثلت القمة العربية الصينية، محطة تحضير وتشاور، وأتت أيضاً ضمن أهداف بكين في دعم استثماراتها ودفع اقتصادها للتعافي، والذي يصنف الثاني عالميا بناتج 17.73 تريليون دولار، لكن معدلات النمو الصيني سجلت تراجعا في العام الماضي، وقدرت بـ3%، وهي أدنى نسبة منذ 40 عاماً، ذلك إلى جانب معدلات عام 2020 البالغة 2.2% ضمن تداعيات الجائحة اقتصاديا.
وشكلت الأزمتان الاقتصادية والسياسية في إيران دافعاً لتهدئة التوتر مع جيرانها، خاصة مع احتجاجات شعبية في الشهور الماضية، والتي تعيد ظاهرة الاحتجاج وكادت تهدد بقاء النظام، وضمن أسبابها أزمة اقتصادية عميقة، وانكماش الناتج المحلي إلى 359.71 مليار دولار خلال 2021، بعدما كان سجل 486 مليارا في 2017، وتجاوز 644 مليارا في 2012، وما ترتب عليه من انخفاض نصيب الفرد من الدخل، إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم في خط تصاعدي منذ يوليو/تموز 2022 (بلغ التضخم السنوي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 53.4%) غير انهيار العملة المحلية.
وتصاعدت الأزمة الاقتصادية في إيران، كما يتضح، بالتزامن مع العقوبات الأميركية 2018، والتي تركت أثرها على التشغيل والتصنيع والتجارة الخارجية، خاصة تصدير النفط، والذي يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد، ومرّ القطاع بأزمات متتالية، مع الثورة الإيرانية وسلسلة من العقوبات الأميركية آخرها 2018. وبكين بوصفها الوسيط في الاتفاق الأخير، يمكنها أن تلعب دورا في انتعاش قطاع النفط، خاصة مع الطلب المتصاعد على الطاقة بعد الحرب على أوكرانيا، كما أن الصين أكبر المستوردين للنفط الإيراني، ويتصل هذا النشاط باتفاقيات تعاون بين البلدين وبـ"طريق الحرير".
وفي هذا السياق، بإمكان إيران والسعودية دعم تنسيقهما مع دول "أوبك"، للحفاظ على مستوى أسعار يحقق عوائد للمنتجين، وكذلك في إطار تساند مع روسيا التي تعاني من تحديات في بيع الغاز الروسي، يمكن مواجهة الضغوط الأميركية المتعلقة بملف الطاقة الإيراني، وهنا يبرز دور "أوبك" كتجمع اقتصادي، مؤثرا في بنية العلاقات السياسية الدولية، إضافة إلى تأثيرات الحرب في أوكرانيا.
شكل المشهد الاقتصادي عاملا مهما في كلا البلدين، ومحفزا لإتمام الاتفاق، ومقدمة لعودة العلاقات، وهناك نتائج محتملة، مثل إقامة مشروعات جديدة، وزيادة التبادل التجاري المحدود
وفي رد فعل سريع، ارتفع سعر صرف الريال الإيراني مقابل الدولار بعد ساعات من الاتفاق، ومن بين نتائج متوقعة مستقبلا حل الخلافات في مناطق ومشروعات النفط المشتركة بين السعودية والكويت وسلطة عمان وإيران، وستترك عودة علاقات الخليج مع طهران آثارها الاقتصادية، إذ تتسع المراهنة على الاتفاق في استقرار المنطقة التي عانت آثار تنافس ومواجهات بين الرياض وطهران، واتخذت أحياناً شكل الحرب بالوكالة، وخلّفت أعباء اقتصادية خلال عقد مضى، تجاوزت آثارها البلدين، التي توترت العلاقات بينهما منذ الثورة الإيرانية 1979.
وكما شكل المشهد الاقتصادي عاملا مهما في كلا البلدين، ومحفزا لإتمام الاتفاق، ومقدمة لعودة العلاقات، هناك نتائج محتملة بشكل مباشر، مثل إقامة مشروعات جديدة، وزيادة حجم التبادل التجاري المحدود بين الرياض وطهران. ويتأسس التعاون، طبقاً لبنود الاتفاق، على إحياء الاتفاقات في مجال الاقتصاد والموقعة خلال مايو/أيار 1998.
وستساهم التفاهمات المستجدة، أيضاً، إلى جانب الاتفاقيات الأمنية السابقة، في تهدئة التوتر وتسريع حركة توزيع وإنتاج النفط، والتي ستعزز من تأمين منشآت الإنتاج في الخليج، غير تفاهمات أكبر بين الرياض وطهران إلى جانب باقي أعضاء "أوبك" في المنطقة.
هذا إلى جانب نتائج غير مباشرة تخفف أعباء وتكاليف المواجهة بين البلدين عسكرياً، والذي انعكس على التسليح والإنفاق على الدفاع والأمن، خاصة حال تهدئة المواجهات على ساحة اليمن، إذ تعرضت المنشآت النفطية إلى سلسلة هجمات، منها استهداف منطقة بقيق السعودية في 2019، ما عطل نصف الطاقة الإنتاجية، وسبب مشكلة في حركة التصدير عبر باب المندب.
وضمن هذا السياق، سيعزز التعاون الأمني والتفاهم السياسي، مساراً جديداً لتقليص الإنفاق على القطاع العسكري خارج الحدود لمجموعات موالية للدولتين، كما في اليمن وسورية، أو الإنفاق على محركات المواجهة في العراق ولبنان كمثالين أقل حدة.
ويبقى للتعاون الاقتصادي دوره أيضاً، كميسّر في ترسيخ الاتفاق، وتقليل نبرة الحذر المتبادلة، وبناء أرضية من الثقة. ويمكن القول إن الاتفاق يحمل مكاسب أساسية لأطراف ثلاثة؛ إيران والسعودية والصين كوسيط.
الصين تعمق نفوذها السياسي والاقتصادي وتقوي جبهتها في الشرق الأوسط. بينما تعلن السعودية قواعد جديدة في المنطقة، وتشير إلى توسع دورها سياسيا، كما تركز على قيادة الشرق الأوسط
في إيران تريد النخبة الحاكمة البقاء والإفلات من أزمتها الاقتصادية وعزلتها الدولية، كما ترغب في تقليل تكلفة حروب وصراعات تخوضها إيران في خمس دول عربية.
بينما الصين تعمق نفوذها السياسي والاقتصادي وتقوي جبهتها في الشرق الأوسط. بينما تعلن السعودية قواعد جديدة في المنطقة، وتشير إلى توسع دورها سياسيا وتنوع مشروعاتها الاقتصادية المرتبطة برؤية 2030، كما تركز على قيادة الشرق الأوسط.
وربما تكون إسرائيل الأكثر تضررا من هذا الاتفاق بحكم مراهنتها على حيازة دور أكبر في الشرق الأوسط وتمرير مشروعات اقتصادية تتعلق بالطاقة والتسليح وتسريع وتيرة التطبيع، عبر إحياء السوق الشرق أوسطية، وبقيادة تحالف عسكري مناهض لإيران وتقوية عزلتها دوليا.