جاء إضراب عمال صناعة السيارات الأميركية كأحدث حلقة في سلسلة الصراع بين العمال وأصحاب العمل، والتي يتوقع اقتصاديون أن تتسبب في نتائج سلبية على النمو الاقتصادي، حال استمراره لفترات مطولة، رغم أنه حتى الآن لم يؤثر إلا على جزء صغير من القوى العاملة، مع تسببه في آثار محدودة على الاقتصاد الأوسع.
ويتوقع أغلب المراقبين من الاقتصاديين والمحللين بقاء التأثير المباشر لإضراب العمال محدودًا، لكن يمكن أن تتغير كل التوقعات، إذا اتسع نطاق الإضراب وطال أمده.
واتخذ اتحاد عمال صناعة السيارات UAW منهجًا جديدًا إلى حد ما في هذا الإضراب، حيث استهدف ثلاثة مصانع فقط، وشارك فيه أقل من عُشر العمال الأعضاء فيه من العاملين في الشركات الثلاث الكبرى، فورد وجنرال موتورز وستيلانتس. ومع استمرار عدم التوصل لاتفاق، وتحول الأمر إلى إضراب شامل، يشارك فيه 146 ألف عضو بالاتحاد، سيكون الأمر مختلفاً بالتأكيد.
وتشير تقديرات الاقتصاديين إلى حدوث ضرر ربع سنوي على الناتج المحلي الإجمالي، بما يقدر بنسبة 1.7 نقطة مئوية، في وقت لا يزال العديد من الاقتصاديين يتوقعون انزلاق الولايات المتحدة إلى الركود في الأشهر المقبلة. ويمثل إنتاج السيارات في الولايات المتحدة نحو 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا يخفى ما يضفيه الإضراب من غموض، يزيد من تعقيد المشهد لدى بنك الاحتياط الفيدرالي، الذي يستعد لاتخاذ قرار (سهل نسبياً) بخصوص سعر الفائدة اليوم الأربعاء، بينما تكمن الصعوبة كلها في القرار المنتظر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. ويسعى البنك المركزي الأميركي الأكبر في العالم لتحقيق الهبوط الآمن، الذي يضمن النزول بالتضخم الأميركي إلى مستواه المستهدف عند 2%، مع تجنب دخوله في ركود، يأتي على أرباح الشركات، ويجبرها على تقليص إنفاقها الاستثماري، ويتسبب في مستويات غير مقبولة من البطالة.
وشهد شهر أغسطس/ آب الماضي وحده توقف حوالي 4.1 ملايين ساعة عمل بسبب الإضراب، وهو أكبر عدد من ساعات العمل يتم فقدها في شهر واحد منذ أغسطس 2000، وفقًا لوزارة العمل الأميركية. وإذا ما أضيف إليه شهر يوليو، يكون هناك ما يقرب من 6.4 ملايين ساعة ضائعة، نتيجة لما يقرب من عشرين إضراباً. ومنذ بداية العام وحتى الآن، تم فقدان 7.4 ملايين ساعة، مقارنة بإجمالي 636 ساعة فقط لنفس الفترة من عام 2022.
وجاءت هذه الأعداد الكبيرة نتيجة 20 وقفة احتجاجية كبيرة شملت نقابة الكتاب الأميركية، ونقابة ممثلي الشاشة، وموظفي الدولة في جامعة ميشيغان، وموظفي الفنادق في لوس أنجليس. وحالياً، يهدد حوالي 60 ألف عامل في مجال الرعاية الصحية في كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن بالدخول في إضراب جديد عن العمل.
وبعد سنوات من الهدوء النسبي، ارتفع صوت النقابات عاليًا في عصر توغل التضخم الذي شهده العالم أجمع، ومنه الولايات المتحدة، خلال السنوات القليلة الماضية. وأصبح من السمات الرئيسية المطلوبة من كل رئيس تنفيذي في أي شركة أميركية حالياً تميزه بالقدرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات، ناهيك عن توقع حدوثها في أي وقت.
ويطالب العمال المضربون برفع أجورهم بعد تحقيق الشركات التي يعملون بها أرباحاً قياسية، يقول الرئيس الأميركي جو بايدن إنها تجاوزت عشرين مليار دولار للشركات الثلاث التي يشارك العاملون فيها في الإضراب، وذلك خلال النصف الأول من العام فقط. ويطلبون أيضا عدداً من المزايا الأخرى، تشمل مكافآت التقاعد، والسماح بالعمل من المنزل، كما إلغاء بعض ما قدموه من تنازلات خلال فترة الأزمة المالية العالمية في 2008-2009 إنقاذاً لشركاتهم.
وتشير الأرقام الصادرة عن البنك الفيدرالي في نيويورك إلى أن العمال يطلبون في المتوسط رواتب تقترب من 80 ألف دولار سنويا عند تغيير وظائفهم. وفيما يخص عمال صناعة السيارات، طلب الاتحاد زيادة أجورهم بنسبة 36% موزعة على أربع سنوات، على غرار مكاسب الأجور التي شهدها الرؤساء التنفيذيون لشركات صناعة السيارات.
وأعادت هذه الزيادات المحتملة إلى الأذهان المخاوف القديمة من عودة معدل التضخم الأميركي لمستوياته التي كانت الأعلى في أربعة عقود، بعد أن ظن الكثيرون أنه ولى بلا رجعة قريبة.
وقالت وزيرة الخزانة، جانيت يلين، إنها تعتقد أنه من السابق لأوانه وضع توقعات حول ما يعنيه الإضراب بالنسبة للاقتصاد، فالمسألة تعتمد إلى حد كبير على مدة استمرار الإضراب، ومن سيتأثر به.
وفي الوقت الذي كان ينبغي عليه أن يضع اللمسات النهائية لإطلاق حملة إعادة انتخابه، يجد بايدن نفسه محاصراً من كل اتجاه، لا بسبب الإضراب فقط، وإنما أيضاً لظروف توجيه الاتهام لابنه في قضية سلاح اشتراه، وأيضاً احتمالات إغلاق الحكومة، رغم التوصل لاتفاق يسمح بتسيير الأمور حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع أسعار وقود السيارات الذي أرق الأميركيين، وتسبب في تراجع نسب الرضاء عنه، رغم تحقيق نجاحات في العديد من الملفات الأخرى.
وأظهر استطلاع حديث للرأي، أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" مؤخرًا أنه على الرغم من أن الناخبين لديهم وجهة نظر أكثر تفاؤلاً تجاه الاقتصاد، إلا أن القليل منهم يُرجع لبايدن الفضل في ذلك، حيث أعرب ما يقرب من ثلاثة من كل خمسة ناخبين استطلعت الصحيفة آراءهم عن عدم موافقتهم على تعامل بايدن مع الاقتصاد.
ويهدف الجمهوريون إلى وضع التعاملات التجارية لهانتر بايدن بشكل مباشر في قلب انتخابات 2024. وعند إعلانه عن التحقيق في مسألة عزل بايدن الأسبوع الماضي، قال رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي إن الجمهوريين "توصلوا إلى نقاط خطيرة وذات مصداقية بشأن سلوك الرئيس بايدن" فيما يتعلق بأنشطة ابنه.
وإذا سارت الأمور على هذا النحو، سيقترب الأميركيون من إعادة السيناريو الذي تم قبل ما يقرب من أربع سنوات، فلا يتبقى إلا أن يخرج بايدن من البيت الأبيض بسبب الاقتصاد، كما تسبب اقتصاد كوفيد في خروج دونالد ترامب. فهل يعيد التاريخ نفسه؟