ما أن استيقظ الإسرائيليون على أخبار هجوم المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر الماضي حتى تدافع الآلاف منهم نحو المطارات، ومنها بن غوريون وحيفا، والموانئ، باحثين عن أي طائرة أو سفينة تقلهم خارج الدائرة الجهنمية التي وجدوا أنفسهم في قلبها فجأة.
وقبل أيام رأينا فيديو لمتظاهرين من دولة داغستان وهم يقتحمون طائرة تقل إسرائيليين فارين من بلدهم بسبب مخاطر الحرب.
وقبلها رأينا أساطيل من الطائرات التي تحمل إسرائيليين متجهين إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وقبرص واليونان والبرتغال وإسبانيا، وامتدت دائرة الفرار إلى جورجيا وتايلاند وسنغافورة وكوريا الجنوبية وغيرها من دول العالم.
هؤلاء باتوا يفرون في موجة هجرة عكسية واسعة النطاق مع زيادة المخاطر الأمنية وصواريخ المقاومة التي تتدفق على رؤوسهم منذ أكثر من 3 أسابيع ودون توقف ولو ليوم واحد.
هؤلاء يفرون في موجة هجرة عكسية واسعة النطاق مع زيادة المخاطر الأمنية وصواريخ المقاومة التي تتدفق على رؤوسهم
ومع زيادة موجة الهروب تعود إلى السطح مرة أخرى المخاوف الإسرائيلية من انخفاض وتآكل أعدادهم مقابل أعداد الفلسطينيين الذين يتزايدون يوم بعد يوم سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو داخل أراضي 1948 المحتلة.
ومع طول أمد الحرب وضخامة خسائرها النفسية والمالية والاقتصادية بات المجتمع الإسرائيلي منقسما ما بين أشخاص سافروا بالفعل وركبوا أول طائرة بغض النظر عن الكلفة وسعر التذاكر المرتفعة وعدم الترتيب بشكل كافي، وهؤلاء على الأغلب يحملون جنسيات ثانية أو إقامات في دولة أخرى.
وآخرين يخططون للسفر إلى الخارج، وهؤلاء ربما يؤجلون قرارهم بعض الشيء لأنهم يعتبرون سفرهم مغادرة نهائية لا رجعة فيها.
ولذا وقبل سفرهم يبيعون كل شيء بعد أن أدركوا أن مستقبلهم ليس في تلك البقعة من الأرض التي تم اغتصابها من أصحابها الحقيقيين قبل 75 سنة، وليست في "أرض الميعاد" الحالمة والمزعومة.
ولذا يعمل هؤلاء حاليا وبكل جد على الفرار بكل ما هو ثمين ونقل أصولهم وثرواتهم وأوراقهم المالية من سندات وأذون خزانة وأسهم من إسرائيل إلى الخارج، وفتح حسابات مصرفية في أوروبا والولايات المتحدة لتحويل أموالهم بالداخل إليها بعد "دولرتها"، أي تحويلها لدولار، وشراء عقارات وأراضي وشركات خارج دولة الاحتلال.
وفي كل الأحوال يحرص كل من الفريقين الأول والثاني على الفرار وبحوزته أمواله ومدخراته وسنداته وأسهمه ودفتر شيكاته، فالقادم أسوأ، وخسائر الاقتصاد الإسرائيلي فادحة، ودولة الاستقرار المزعومة باتت تعوم على بحار من الخوف والمخاطر.
يعمل هؤلاء وبكل جد على الفرار بكل ما هو ثمين ونقل أصولهم وثرواتهم من إسرائيل إلى الخارج، وفتح حسابات في أوروبا وأميركا
وتكلفة الحياة باتت مرتفعة، فالأسعار في طريقها للارتفاع سواء كانت سلعا أو إيجارات أو خدمات، وهو ما يبرر استمرار تهاوي الشيكل لأدنى مستوياته منذ العام 2012، وتراجع أسعار الأسهم المدرجة في بورصة تل أبيب رغم مساندة البنك المركزي القوية لأسواق المال والعملة عقب اندلاع الحرب وضخ 45 مليار دولار، حيث يبيع بعض هؤلاء أملاكهم وعقاراتهم داخل إسرائيل، وربما يصفّون شركاتهم هربا من دولة باتت عالية المخاطر بعد أن كانت تصف نفسها على أنها واحة الاستقرار وسط محيط عربي مضطرب، ومن هنا خسرت بورصة تل أبيب 25 مليار دولار خلال 3 أسابيع قط.
وهناك فريق ثالث يعكف على البحث بشكل جدي عن جواز سفر أجنبي تمهيدا لمغادرة البلاد بشكل نهائي، وهؤلاء يخططون للفرار من إسرائيل في أقرب وقت بعد أن يعثروا على ضالتهم سواء في جواز سفر دول الكاريبي أو غيرها.
هذا الفرار الجماعي اعترفت به صحيفة هآرتز haaretz قبل أيام ونشرت تقريرا بعنوان "محاربة حماس أو الهروب: الإسرائيليون يفرون من البلاد خلال الحرب"، والذي يرصد رغبة الكثير من الإسرائيليين في السفر بسبب خوفهم من تطورات الحرب على غزة، وما يحيط بها من مخاطر بالنسبة لهم.
السفر الجماعي الحالي للإسرائيليين سبقته أيضا موجة هجرة عالية بدأت منذ شهر نوفمبر 2022، أي بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وما اعقبها من الكشف عن حكومة نتنياهو المتطرفة، ومحاولة فرض تعديلات تمثل اعتداء صارخا على استقلال القضاء.
فوفق أرقام نشرها موقع "ميدل إيست مونيتور"، في أكتوبر 2023، فإن "دائرة الهجرة البرتغالية أعلنت أن 21 ألف إسرائيلي تقدموا بطلبات للحصول على جنسيتها منذ بداية العام، ليحتلوا المرتبة الأولى بين الجنسيات الأخرى.
الحرب أعطت انطباعا لسكان إسرائيل أن دولتهم ليست واحة الاستقرار، وطالما وصل الانطباع للمواطنين فسيصل إلى المستثمر الأجنبي
ومع هذا العدد الذي يتكرر مع دول أخرى أصبحت مكاتب الهجرة مقصداً لآلاف الإسرائيليين، وحدثت زيادة بنسبة 10% في عدد الاستفسارات الجديدة المتعلقة بالجنسيات البرتغالية والألمانية والبولندية منذ تشكيل الحكومة الحالية".
الأمر لا يتوقف على الهجرة العكسية الأخيرة من داخل إسرائيل للخارج، إذ يبدو أن الموجة تزايدت في السنوات الأخيرة، فوفقا للأرقام فقد بلغ إجمالي عدد الإسرائيليين الذين هاجروا إلى دول أخرى ويقيمون حاليا في الخارج 756 ألفا نهاية عام 2020، وهو رقم كبير مقارنة بعدد سكان الكيان.
وبحسب أرقام دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية فإن ما بين 572-612 ألف إسرائيلي يعيشون خارج البلاد، وهذا التقدير لا يشمل عدد المولودين في الخارج.
الحرب الأخيرة أعطت انطباعا لسكان إسرائيل أن دولتهم ليست واحة الاستقرار والأمان والديموقراطية كما قيل لهم، وطالما وصل هذا الانطباع للمواطنين فإنه سيصل إلى المستثمر الأجنبي الذي بات يفكر مائة مرة في الاستثمار داخل دولة هشة أمنيا وسياسيا.
دولة احتلال حولتها صواريخ المقاومة خلال ساعات إلى ثكنة عسكرية رافقها استدعاء 360 ألفا من جنود الاحتياط، وتوجيه موارد الدولة لدعم المجهود العسكري، وهو ما أربك المشهد السياسي والأمني ومعهما الموقف الاقتصادي والاجتماعي برمته.