الأوروبيون يتجرعون مرارة هبوط اليورو أمام الدولار... خسائر شبيهة بالدول الفقيرة

06 سبتمبر 2022
ضعف العملة الأوروبية يضغط على الأسر في ظل الغلاء (Getty)
+ الخط -

للمرة الأولى منذ 20 عاماً، تدنى سعر اليورو عن 0.99 دولار، أمس الإثنين، في ظل المخاوف المحيطة بالاقتصاد الأوروبي، بعد إعلان مجموعة غازبروم الروسية، يوم الجمعة الماضي، وقف إمدادات الغاز تماماً عبر خط أنابيب نورد ستريم 1.

وتراجعت العملة الأوروبية الموحدة بنسبة تزيد عن 0.25% إلى أدنى مستوى لها منذ ديسمبر/كانون الأول 2002، لتصل خسائرها منذ بداية العام الجاري 2022 مقابل الدولار إلى 13%.

وتقترب هذه النسبة من معدلات تهاوي عملات العديد من الدول النامية والناشئة التي انزلق بعضها إلى أزمة ديون حادة خلال الأشهر الماضية، بينما لا تزال القائمة مفتوحة لانضمام آخرين خلال الفترة المقبلة.

فقد خسرت 36 عملة حول العالم ما لا يقل عن عُشر قيمتها أمام عنفوان الدولار هذا العام، بينما انخفضت 10 منها، بما فيها الروبية السريلانكية والبيزو الأرجنتيني، بأكثر من 20%.

حرب الطاقة مع موسكو

ولم يعد الألم يقتصر على الدول الفقيرة، بل أضحت الدول الكبرى في منطقة اليورو تشعر بالمعاناة أيضاً، في ظل حرب الطاقة المستمرة مع موسكو على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي.

ويرتفع عدد دول اليورو إلى 20 دولة بعد الموافقة في يوليو/تموز الماضي على تبني كرواتيا العملة الموحدة، اعتباراً من الأول من يناير/كانون الثاني 2023.

كما يطاول الهبوط الجنيه الإسترليني، الذي تراجع، أمس، كذلك إلى أدنى مستوى له منذ عامين ونصف العام عند 1.1458 دولار، وظل قريباً من المستوى المتدني الذي وصل إليه خلال جائحة فيروس كورونا.

وتبدو الخسائر التي تتعرض لها العملات الأوروبية منذ بداية العام الجاري مجرد بداية، إذ توقع بنك الاستثمار الأميركي "مورغان ستانلي" في تقرير له أخيراً، أن يهبط اليورو إلى 0.97 دولار بنهاية سبتمبر/أيلول الجاري، وهو مستوى لم تشهده منذ أوائل العقد الأول من القرن الـ21.

لكن مجموعة "نومورا إنترناشيونال" اليابانية للخدمات المصرفية والاستشارات المالية، تتوقع تراجع اليورو إلى مستويات أقل ليصل إلى 0.95 للدولار أو أقل بنهاية هذا الشهر.

وفي رسالة إلى عملائه، قال كيت جوكس، خبير الاستراتيجي في وحدة صرف العملات الأجنبية لدى بنك "سوستيه جنرال" وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية: "ستشهد نهاية الصيف عودة اليورو للخضوع للضغوط، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن سعر الدولار مناسب للشراء، وجزئياً لأن سيف المخاطر المسلط على اقتصاد أوروبا لم يختفِ".

 36 عملة حول العالم خسرت ما لا يقل عن عُشر قيمتها أمام عنفوان الدولار هذا العام، بينما انخفضت 10 منها، بما فيها الروبية السريلانكية والبيزو الأرجنتيني، بأكثر من 20%

وتساهم أزمة الطاقة في إضعاف اليورو على المدى البعيد، إذ تقوض ميزانيات المستهلكين وتهدد بالتسبب في انكماش اقتصادي في الدول الأوروبية، بينما يتعزز الدولار بصورة متواصلة مستفيداً من وضعه كعملة ملاذ في ظل الظروف الحالية.

تقول فيكتوريا شولار، المحللة لدى منصة تداول العملات "إنترأكتيف إنفستور" لوكالة فرانس برس، إن "تراجع اليورو جاء بعدما أغلقت روسيا خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 لمدة غير محددة إلى أوروبا في وقت اتفقت دول مجموعة السبع على فرض سقف لسعر صادرات الغاز الروسي".

واستهدفت الدول الصناعية السبع الكبرى عائدات روسيا من الطاقة باتفاقها، الأسبوع الماضي، على فرض سقف لسعر صادراتها النفطية، فردت موسكو بإعلان الوقف التام لإمدادات الغاز عبر خط أنابيب "نورد ستريم1".

وكانت روسيا قد أغلقت الخط الذي ينقل الغاز إلى ألمانيا يوم 31 أغسطس/آب، بسبب ما قالت شركة "غازبروم" الروسية إنها أعمال صيانة ستستغرق ثلاثة أيام حتى السبت الماضي.

لكن الشركة الروسية، عادت وأعلنت، يوم الجمعة، أنه لن يكون بإمكانها استئناف التدفقات، مشيرة إلى تسرب زيت في توربين الغاز الرئيسي في محطة بورتوفايا للضخ بالقرب من مدينة سان بطرسبرغ، فيما تتهم الحكومات الغربية موسكو بالبحث عن ذريعة لقطع الإمدادات، رداً على العقوبات التي فُرضت عليها.

وتوقع بنك غولدمان ساكس، قبل يومين، أن ترتفع أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى قرب مستوياتها القياسية التي سجلتها خلال أغسطس/آب الماضي.

إذ نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية، يوم الأحد، عن داميان كورفالين، رئيس أبحاث الطاقة في البنك، أن إعلان موسكو توقف الإمدادات لأجل غير مسمى، من المحتمل أن "يعيد إشعال حالة عدم اليقين في السوق فيما يتعلق بقدرة منطقة الاتحاد الأوروبي على إدارة المخزونات خلال فصل الشتاء".

وعدم استئناف الإمدادات عبر "نورد ستريم 1" يزيد من مخاطر انقطاع التيار الكهربائي ويشعل موجة غلاء السلع والخدمات من جديد، بينما كانت دول الاتحاد الأوروبي قد عكفت على تكوين مخزون مؤقت لفصل الشتاء.

نوبات برد شديدة

ومع التطورات الأخيرة يمكن أن يزداد الوضع سوءاً بمجرد أن تتضاءل المخزونات، وخاصة مع اقتراب نهاية موسم التدفئة، أو إذا تعرضت القارة لنوبات برد شديدة.

و"نورد ستريم 1" أكبر خط أنابيب غاز روسي إلى أوروبا من ناحية الكمية التي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً.

ويمتد هذا الخط المزدوج عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا. وفي العامين الماضيين فاق بالفعل طاقته المبينة على لوحة بياناته، محققاً 59.2 مليار متر مكعب في عام 2021.

وفي خضم هذه التطورات، يقول مايكل هيوسون المحلل لدى شركة "سي إم سي ماركتس" للوساطة المالية، إن العملة الأوروبية "ستتراجع أكثر على الأرجح".

وبالإضافة إلى أزمة أسعار الغاز تواجه المنطقة مصاعب أخرى، منها تعطل سلاسل التوريد من جديد، وصيف جاف بصورة غير اعتيادية تسبب في تراجع المحاصيل الرزاعية وارتفاع الأسعار.

وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسياً في أغسطس/ آب، مسجلاً 9.1% على أساس سنوي، حسب بيانات صادرة عن مكتب المفوضية الأوروبية للإحصاء (يوروستات)، الأربعاء الماضي، ما يفاقم الضغوط على البنك المركزي الأوروبي الذي سيرفع أسعار فائدته قريباً ما يزيد من المصاعب المالية والمعيشية لعشرات ملايين الأسر الذين يكابدون لسداد أقساط القروض.

وتُعدّ هذه الأرقام الأعلى في تاريخ مستويات التضخم التي يسجلها يوروستات منذ يناير/ كانون الثاني 1997. إذ تسببت الحرب في أوكرانيا والعقوبات المتبادلة بين روسيا والدول الأوروبية في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة.

موجات الجفاف الشديدة

ووفق مركز "كابيتال ايكونوميكس" للأبحاث الاقتصادية، فإن التضخم في منطقة اليورو سيزداد أكثر في الأشهر المقبلة وقد يبلغ 10% قبل نهاية العام، متوقعاً ارتفاع أسعار الغاز والمواد الغذائية.

ويؤدي ارتفاع تكلفة المعيشة إلى إلحاق الضرر بالشركات والأُسر في المنطقة، إذ أدت تهديدات الطاقة الروسية إلى تفاقم هذه المشكلة مع اقتراب الأشهر الأخيرة من عام 2022، بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت أزمة العرض بسبب موجات الجفاف الشديدة التي أدت إلى انخفاض مستويات المياه في الأنهار بجميع أنحاء أوروبا.

ولا تزال أسعار الطاقة تشهد أكبر زيادة على أساس سنوي في منطقة اليورو، مسجّلة 38.3% في أغسطس/ آب.

وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 10.6%. ففي هولندا، ارتفعت أسعار الاستهلاك بنسبة 13.6% على أساس سنوي الشهر الماضي، حسب بيانات مكتب الإحصاءات الهولندية المركزي.

وفي بولندا، زادت أسعار الاستهلاك بنسبة 16.1% على أساس سنوي، وفق تقديرات أولية صدرت عن المكتب الوطني للإحصاءات الأربعاء الماضي، كما سجلت إيطاليا تضخماً قياسياً غير مسبوق منذ 1985، بلغ 8.4%، بحسب تقديرات أولية نشرها المعهد الوطني للإحصاء.

وطاولت تداعيات أسعار الطاقة الأنشطة الإنتاجية والخدمية لتنعكس على التشغيل. ففي ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، ارتفعت البطالة في أغسطس/آب للشهر الثالث على التوالي، ليصل عدد العاطلين إلى 25.5 مليون شخص، مع دخول لاجئين أوكرانيين سوق العمل الألمانية، وفق ما قالت وكالة التوظيف الألمانية في بيان نهاية الشهر الماضي.

وتتصاعد مخاطر حدوث ركود في منطقة اليورو إلى أعلى مستوى منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020 الذي شهد ذروة الإغلاق خلال جائحة كورونا، إذ يهدد نقص الطاقة بدفع التضخم، المرتفع بالفعل، إلى مواصلة الصعود.

وفي تقرير لمجموعة "يو بي إس" المصرفية السويسرية، نهاية الشهر الماضي، قال الاقتصاديون في المجموعة بقيادة راينهارد كلوز إنه "في ضوء الزيادات الكبيرة بأسعار الطاقة، والتي تنطوي على مزيد من الضغط على الاستهلاك العائلي والاستثمار الثابت، نتوقع الآن أن تعاني منطقة اليورو من ركود تقني".

بينما جاءت نظرة الاقتصاديين في بنك الاستثمار الأميركي "مورغان ستانلي" أكثر تشاؤماً، إذ توقعوا حدوث انكماش أعمق في منطقة اليورو، بدءاً من الربع الأخير من 2022.

التضخم في منطقة اليورو بلغ مستوى قياسياً في أغسطس/ آب، مسجلاً 9.1% على أساس سنوي، حسب بيانات صادرة عن مكتب المفوضية الأوروبية للإحصاء (يوروستات)

وفي ظل هذه الصعوبات الاقتصادية والمعيشية، أضحت أوروبا على حافة الاضطرابات، إذ تتصاعد الاحتجاجات التي تتوقع مؤسسات مالية دولية أن تصل إلى حد الثورات الشعبية في بعض البلدان وإطاحة حكومات في المنطقة.

وخصص الساسة الأوروبيون بالفعل نحو 280 مليار يورو (279 مليار دولار) لتخفيف آلام ارتفاع أسعار الطاقة على الشركات والمستهلكين، لكن ضخامة الأزمة تُعرّض المساعدات لخطر التضاؤل.

ووفق جوانا ماكوفياك بانديرا، رئيسة مركز أبحاث "فورم إنرجي ومقره وارسو، فإن "الأمر يشبه إخماد النيران بالبنزين.. نحن لم نصل إلى قاع الأزمة حتى الآن".

وتخاطر الاستجابة السياسية باستنزاف الموارد المالية للمنطقة ورفع التضخم بشكل أكثر مع تعثر الاقتصادات، وهذا قد يضغط على دافعي الضرائب لدفع الفاتورة للتمتع بمزيد من الدعم، مع توقع استمرار ارتفاع الأسعار على الأقل خلال العام المقبل، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ مطلع الشهر الجاري.

المساهمون