بدأت الحركة الاقتصادية السياحية تنشط في لبنان على مسافة أيّام من عيدَيْ الميلاد ورأس السنة، على الرغم من الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني والاحتمالات التي تبقى مرتفعة بتوسّع رقعتها لتشمل باقي المناطق اللبنانية، خصوصاً في ظلّ التصعيد العسكري الحدودي وتزايد وتيرة التهديدات الإسرائيلية لسكان العاصمة بيروت بأنهم "سيلقون مصير أهل قطاع غزة".
واختلف المشهد نسبياً في شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري مقارنة مع شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، خصوصاً على صعيد أعداد الرحلات الجوية والحجوزات في المؤسسات السياحية، التي كانت تراجعت بشكل كبير مع بدء الأحداث الأمنية بين الاحتلال ولبنان في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، علماً أن خبراء اقتصاد يؤكدون أن هذه المشهدية مؤقتة، والحركة تقتصر على موسم الأعياد، وفي مناطق محددة ساحلية أكثر من القرى والبلدات، خصوصاً الجنوبية، ولن تؤثر بشكل إيجابي لافت على الاقتصاد ككلّ.
تحذيرات أممية
يوم الثلاثاء الماضي، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً بعنوان "حرب غزة: نتائج أولية حول الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي على لبنان"، والذي يقدّم تحليلاً أولياً للآثار والعواقب المحتملة لعمليات "طوفان الأقصى" وحرب غزة المستمرة على الاقتصاد اللبناني والقطاعات الرئيسية.
وأشار التقرير إلى عواقب وخيمة قد يواجهها لبنان اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً بسبب الحرب، وآثار عميقة للصراع على حياة وسبل عيش سكان الجنوب اللبناني وخارجه، منبّهاً إلى أن احتمال انكماش الاقتصاد بات مرتفعاً.
وحسب التقرير، فإنّ "القطاعات الاقتصادية الرئيسية، السياحة والخدمات والزراعة، تضرّرت أكثر من غيرها، وهي التي توفّر فرص العمل والدخل لنسبة كبيرة من سكان لبنان، كما أن احتمال انكماش الاقتصاد بات مرتفعاً".
وشهد قطاعا السياحة والخدمات، اللذان يساهمان بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي وخلق فرص العمل، تراجعاً ملحوظاً منذ بداية الصراع، كما يتضح من تضاؤل أعداد المسافرين والطلب على خدمات الضيافة مثل الفنادق والمطاعم.
وذكر التقرير أيضاً أن الهيئة العامة للطيران المدني اللبناني سجّلت أن عدد الرحلات المغادرة أكبر من الرحلات القادمة إلى لبنان خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وانخفاضاً بنسبة 15 في المائة في تدفق الركاب مقارنة بأكتوبر 2022، وفي الفترة ذاتها، انخفضت معدلات إشغال الفنادق في لبنان إلى أقلّ من 10 في المائة بسبب المغادرة المبكرة للزوار وإلغاء الرحلات.
وكشف أيضاً أنّ "هناك خطراً إضافياً يتمثل في توقف التدفقات المالية والتحويلات المالية، ما يضاعف التحديات في بيئة مصرفية معطلة أساساً".
وذكر التقرير أنه "في عام 2022، سجل لبنان أعلى نسبة تحويلات مالية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث بلغت 37.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يصل إلى 7 مليارات دولار أميركي سنوياً. ويصل حالياً أكثر من 70 في المائة من رأس المال هذا إلى البلاد من خلال قنوات غير رسمية، مثل الأفراد الذين يحملون الأموال النقدية عبر الحدود".
زخم المطار
وفي الأيام القليلة الماضية، عاد الزخم إلى مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي في بيروت لناحية الوافدين الذين يصل عددهم إلى حوالي 5 آلاف وافد يومياً، خصوصاً بعد مضاعفة شركة طيران الشرق الأوسط رحلاتها، واستئناف العديد من شركات الطيران الأجنبية رحلاتها إلى لبنان بعدما أوقفتها، واتخذت جملة إجراءات استثنائية بفعل المناوشات النارية التي تشهدها الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة بين "حزب الله" وجيش الاحتلال الإسرائيلي منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول غداة عملية "طوفان الأقصى".
في هذا الإطار، يقول مصدرٌ في مطار بيروت الدولي، لـ"العربي الجديد"، إن "الحركة لا يمكن القول إنها شبيهة بتلك التي سجلت العام الماضي، لكنها أفضل ممّا توقعنا في ظلّ التصعيد العسكري على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة وربطاً بالانعكاسات السريعة التي ظهرت في مطلع المواجهات في أكتوبر الماضي، بمعنى تخفيض عدد الرحلات، ونقل بعض طائرات طيران الشرق الأوسط إلى إسطنبول وقبرص بالدرجة الأولى، ووقف العديد من الشركات الأجنبية والعربية والخليجية نشاطها، عدا عن الحجوزات التي أُلغيت".
ويشير المصدر إلى أن "أعداد الوافدين تتخطى 8 آلاف يومياً والرقم يسجل ارتفاعاً سريعاً مع مرور الوقت، ولكن العدد الأكبر منهم هو من اللبنانيين الذين يأتون من الدول العربية والخليجية، وبشكل خاص قطر والإمارات، كما سجل قدوم العديد من اللبنانيين من دول أوروبية، لا سيما من فرنسا والسويد".
نشاط الأسواق
كذلك، تنشط الحركة في الأسواق التجارية، لا سيما في بيروت والمناطق الساحلية المحيطة بها، وتسجل حجوزات لافتة على مستوى قطاعي "السهر والمطعمي" منذ بدء شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، مع توقعات وتفاؤل بارتفاعها في عيدي الميلاد ورأس السنة، خصوصاً أن هناك مطاعم عدة لم يعد لديها مقاعد وطاولات شاغرة.
في مقابل هذه الأجواء "التفاؤلية"، تقول أوساط اقتصادية لـ"العربي الجديد" إن "الحركة في هذه الفترة طبيعية، إذ إننا في موسم الأعياد، والناس ستقصد حتماً الأسواق التجارية ومحال الألعاب لشراء الهدايا والألبسة، كما ستقصد المطاعم والمقاهي ومحال السوبرماركت وغيرها، ولكن ذلك لن ينعكس على الاقتصاد، أو على جميع القطاعات، إذ منها ما يبقى متضرّراً بفعل الأحداث الأمنية الراهنة".
وتلفت الأوساط إلى أن "غالبية الذين يتوافدون إلى لبنان هم من اللبنانيين المغتربين والعاملين بشكل خاص في دول الخليج، ويأتون لزيارة عائلاتهم وأهلهم، ويقضون بضعة أيام قبل أن يرحلوا، وأعدادهم تبقى أقل من العام الماضي بحوالي النصف، فهناك مخاوف من قبلهم بتطور الأوضاع أمنياً في أي لحظة، ما قد يعيق إمكانية عودتهم إلى أعمالهم، في المقابل، لم يسجل توافد لافت للسياح العرب أو الأوروبيين الذين ينفقون العملات الصعبة، خصوصاً في قطاع الفنادق الذي يعدّ أبرز المتضرّرين".
وأشارت الأوساط إلى أن "الاقتصاد لا يقتصر فقط على القطاع السياحي، وانعكاسات الحرب الدائرة في الجنوب ستظهر في المرحلة المقبلة، أما إذا اتسعت رقعتها، فعندها العواقب ستكون وخيمة جداً، إذ لا قدرة للبنان على تحمّلها على المستويات كافة".
ظروف سيئة
يقول رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر، لـ"العربي الجديد": "إننا نمرّ بظروف سيئة جداً، والوضع ليس جيداً بشكل عام، ولو أن هناك بعض شرائح القطاع السياحي بدأت تلحظ تحسناً، لكن لا يجب أن تقتصر نظرتنا على شرائح معينة بل على الاقتصاد بشكل عام وهو المتضرّر".
ويشير الأشقر إلى أن "قطاع الفنادق على سبيل المثال وضعه لا يزال سيئا جداً، والسبب في ذلك يعود إلى كون الوافدين إلى لبنان هم من المغتربين الذين بغالبيتهم لديهم أماكن سكن، ولم تُسجل إلا أعداد قليلة من السياح الأجانب وحتى العرب الذين يعاني بعضهم من أوضاع استثنائية تحول أيضاً دون قدرتهم على السياحة".
ويلفت الأشقر إلى أن "هذه الأجواء تقتصر على موسم العيد، وهذا لا يلغي أننا حالياً في فترة حرب محصورة اليوم في الجنوب وقد تمتدّ بأي لحظة، من دون أن ننسى أن هناك آلاف المهجّرين والنازحين من القرى الحدودية وأكثر من 100 شهيد والتهديدات بالتصعيد لا تزال قائمة".
ويشير أيضاً إلى أن "عدد الزوار قد يتخطى 300 ألف، وهؤلاء ينشطون الأسواق التجارية والمطاعم والمقاهي والملاهي بالدرجة الأولى، وربما تنعكس الأجواء الإيجابية بعض الشيء على الفنادق في حال تساقط الثلوج، ما قد يساهم في تسجيل حجوزات خلال هذه الفترة، ولكن نكرّر أن ذلك ينعش الوضع لأيام لن تتخطى الأربعة بالأكثر، فنحن بحالة حرب ولسنا بحالة عادية، ولبنان اليوم خارج الخريطة السياحية".
انكماش اقتصادي
بدوره، يقول رئيس "جمعية تجار صيدا (جنوب لبنان) وضواحيها" علي الشريف، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك انكماشاً اقتصادياً نعاني منه منذ سنوات، وتفاقم الوضع سوءاً منذ عام 2019، إذ إن الانهيار المالي النقدي شلّ البلد ككلّ، وضرب القدرة الشرائية للمواطنين، أما اليوم فالجو العام ليس جيداً، من دون أن ننسى أن مدينة صيدا عانت من أحداث أمنية في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، سبقت الحرب الدائرة في غزة والتصعيد على الحدود، ولم تلتقط أنفاسها بعد".
ويشير الشريف إلى أنه "إثر هذه الأحداث المتتالية، وصل الوضع الاقتصادي في صيدا إلى الحضيض، حتى موسم العيد لم نشهد بسوئه من قبل، ونحاول قدر الإمكان طرح عروض تخفيضات في الأسواق، لكن النتيجة ليست جيدة خصوصاً في ظل تآكل القدرة الشرائية، والمعاناة تشمل التاجر كما المواطن"، مشدداً على أننا " لم نشهد انحداراً وركوداً كهذين، خصوصاً في ديسمبر، شهر الأعياد".
ويلفت الشريف أيضاً إلى أنّ "هناك حركة وفود تسجل لكن أقلّ بكثير من السابق، وتقلّ حتى عن العام الماضي، إذ كان خلال هذه الفترة يحضر مئات الألوف من الزائرين اللبنانيين والعرب والأجانب لتمضية فترة العيد، ما كان يردّ كتلة نقدية مهمة للبلد، وهذا الرقم تراجع خصوصاً أن العديد من السفارات دعت رعاياها مع بدء الأحداث إلى مغادرة لبنان وعدم التوجّه إلى الأراضي اللبنانية".
عاد الزخم إلى مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي في بيروت لناحية الوافدين الذين يصل عددهم إلى حوالي 5 آلاف وافد يومياً
كذلك، يشير الشريف إلى أن "الحركة وإن تقتصر بشكل أساسي على بيروت والمناطق الساحلية، لكن الوضع العام ضاغط في البلد، والحركة الاقتصادية ككلّ ليست جيدة، وسمعنا صرخة أصحاب الفنادق التي علت بانخفاض الحجوزات بنحو 90 في المائة والعديد من المقاهي في بعض المناطق أقفلت أبوابها، لذلك لا يمكن فصل المناطق عند مقاربة الانعكاسات، البلد كلّه مأزوم".
على صعيد متصل بالأسعار التي تشهد ارتفاعاً لافتاً وعشوائياً في ظلّ غياب المؤسسات الرقابية، أعلنت إدارة الاحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء في بيان، أمس الخميس، أن مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 سجل ارتفاعاً قدره 2.6 في المائة بالنسبة إلى شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ويشكو المواطنون في لبنان من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية على الرغم من أن سعر صرف الدولار لم يشهد أي تقلبات أو مساراً تصاعدياً خلال هذه الفترة ولا يزال ثابتاً على خطّ الـ90 ألف ليرة.