تجاهلت أسواق المال الأميركية والعالمية حادثة اقتحام الكونغرس من قبل أنصار دونالد ترامب يوم الأربعاء الماضي، وارتفعت مؤشرات "وول ستريت" الرئيسية ولم يهتز العائد على سندات الخزانة الأميركية. إلا أن الحادثة زرعت الشكوك حول مستقبل الاستقرار السياسي في ديمقراطية الولايات المتحدة. ويرى المستثمرون حتى الآن، أن هذه الحادثة لن تؤثر على دخل الشركات أو قدرة الاقتصاد الأميركي على جمع الضرائب والاستمرار في الإنفاق، ولكن على المدى البعيد، فإن هذه الهزة الزلزالية ربما سيكون لها تأثير على نظرة المستثمرين الأجانب للاستقرار السياسي في الولايات المتحدة وسط الانقسام العرقي والطبقي والسياسي والتفاوت الحاد في الدخل. إذ أن هذه الحادثة تأتي في وقت يتراجع فيه العائد على سندات الخزانة الأميركية، بسبب الفائدة المنخفضة (صفر و0.25%)، ويواجه فيه سعر صرف الدولار تراجعاً هو الآخر وبنسبة 7.0% خلال العام الماضي 2020، بينما يواصل التراجع أمام العملات الأخرى في العالم، خاصة اليوان الصيني. كما أنها تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأميركي من الضعف الشديد بسبب مضاعفات جائحة كورونا، بينما خرج الاقتصاد الصيني المنافس له مبكراً من تداعيات الجائحة ويحقق ارتفاعاً في جميع المؤشرات الرئيسية للأداء الاقتصادي. وبالتالي يرى محللون أن حادثة اجتياح الكونغرس ستضاف إلى ضعف الدولار والعائد على السندات السيادية وتقود تدريجياً إلى ضعف التدفقات المالية الأجنبية في أدوات المال الأميركية.
وحسب البروفيسورة كريستين فوربس، المحاضرة في معهد ماساشوستس التكنولجي، فإن حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي في أميركا يقدر سنوياً بنحو ترليوني دولار، معظمها في أسواق الأسهم والسندات. وترى فوربس أن هذه التدفقات تحدث في وقت تعاني فيه أميركا من ارتفاع الدين العام والاختلالات في ميزان الحساب الجاري وتراجع سعر صرف الدولار. وبالتالي يثير خبراء تساؤلات حول جدوى الاستثمار طويل الأجل في أميركا، إذا كان العائد الاستثماري يواصل التراجع والدولار يواصل الانخفاض، كما أن الاستقرار السياسي يواجه مخاطر.
في هذا الشأن، حذر الرئيس التنفيذي لمصرف " ولدمان ساكس" الاستثماري العالمي، من مخاطر حادثة الاقتحام على مستقبل مركز الولايات العالمي ووصفها بأنها مثال آخر على كيفية تبديد الثقة التي بنتها أميركا خلال عقود عديدة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ينظر العالم لواشنطن كقلعة منيعة لحماية النظم الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية في العالم. وأظهرت هذه الحادثة أن الاستقرار السياسي في أميركا يمكن أن يتعرض لضربات جدية. بالتالي، فإن الثقة الاستثمارية في الولايات المتحدة ربما تتراجع بالنسبة لكبار المستثمرين في الاقتصاد وأدوات المال الأميركية في المستقبل.
وتشير دراسات أميركية إلى أن الدول التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي عادة ما تخسر الجاذبية الاستثمارية وإن كانت الدراسات في السابق تركز على الاقتصادات الناشئة، فإنها ربما تتناول في المستقبل الولايات المتحدة أيضاً، إذ إن احتجاج الرئيس ترامب على نتيجة الانتخابات واتهامه بسرقة النتيجة، تحولت من عمليات الانتقاد السياسي إلى التفكير الجدي في الانقلاب على الديمقراطية والسيطرة على الكونغرس بالقوة والعنف الذي أودى بحياة أربعة مواطنيين.
وهذه الحادثة ربما تتخطى آثارها ما حدث بعد اغتيال الرئيس جون كيندي في العام 1963 ومحاولة اغتيال الرئيس رونالد ريغان في العام 1981، إذ إن الاستقرار السياسي والاجتماعي في أميركا يعاني في الأساس من مجموعة من التحديات، على رأسها العنصرية الاقتصادية والمالية في أميركا التي تزايدت في سنوات حكم الرئيس ترامب وأصبحت مؤسسة متكاملة تمارسها البنوك والشركات وأسواق المال، وكذا في الفرص الوظيفية المتاحة في الأعمال التجارية. وبالتالي يتزايد الغبن الاجتماعي وسط السود والأقليات في الولايات المتحدة ويهدد بتمزق المجتمع الأميركي وحدوث ثورات شعبية غاضبة. ولا يستبعد محللون أن يتطور هذا الشرخ على يد الجماعات اليمينية المتطرفة البيضاء إلى صراع دام في شوارع الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة ما لم تتم السيطرة عليه ويسود القانون والعدل والمساواة في الولايات المتحدة.
وبشأن الانقسام والتمييز العنصري المالي، يقول تقرير صادر عن مصرف الاحتياط الفيدرالي، (البنك المركزي الأميركي)، في العام الماضي، إن أصحاب الأعمال التجارية من السود، حينما يتقدمون بطلبات للمصارف التجارية للحصول على تمويل لأعمالهم التجارية، يحصلون على التمويل بنسبة فائدة أعلى من نظرائهم البيض، وأعلى كذلك من منافسيهم وذوي الأصول الآسيوية. كما أن نسبة رفض المصارف الأميركية لطلبات تمويل العملاء السود، أعلى كثيراً من نسبة الرفض للأفراد من المجموعات العرقية الأخرى.
وبالتالي فإن التحديات العنصرية في أميركا التي غذاها الرئيس ترامب خلال سنوات حكمه بالتغريدات العنصرية والقرارات الرئاسية والتعليقات ربما تقوض الثقة في التماسك السياسي والاجتماعي وبالتالي تضيف عامل عدم استقرار أساسي إلى مخاطر الاستثمار في الولايات المتحدة. في هذا الصدد تقول مديرة معهد سياسات المجتمع الأوروبي المفتوح، هيذر غرامبل، إن "هذه الحادثة تعطي مثالاً على أن الاستقرار السياسي يمكن أن ينهار". من جانبها، ترى البروفيسورة بجامعة ميزوري، ريبكا أم سمرز، أن أسس الدولة تقوم على قدرتها على المحافظة على الأمن والاستقرار وحماية المصالح الاقتصادية والقدرة على نشر أيديولوجيتها. هذه الحادثة تزيد من عدم الاستقرار السياسي وربما الغبن الاجتماعي وتناقض المصالح المالية والاقتصادية بين المجتمعات المكونة للولايات المتحدة. ويلاحظ أن العديد من الأثرياء غادروا المدن الأميركية خلال الصيف الماضي حينما اندلعت الاحتجاجات على مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد، كما أن أسعار البنايات والمساكن تراجعت في نيويورك.
بالتالي، على الرغم من أن الحادثة لم تؤثر فوراً على أداء أسواق المال وربحيتها، ولكن ربما تكون لها آثار في المستقبل على الولايات المتحدة، إن لم تتمكن إدارة الرئيس جو بايدن من تنفيذ سياسات فعالة لسد فجوة الدخول ومعالجة الغبن الاجتماعي والفروقات العرقية وتلجم بالقانون المجموعات العرقية البيضاء المتطرفة التي لا ترتضي صعود غير البيض للمناصب السياسية في أميركا. في هذا الشأن يرى الاقتصادي الأميركي كامبل هارفي في تعليقات لنشرة كوارتز الأميركية، أن "الأسواق دائماً تنظر للمستقبل". وفي تحليله لعدم تأثر الأسواق خلال تعاملات الأسبوع بالحادثة، يقول هارفي إن المستثمرين لم يستجيبوا لحادثة اقتحام الكونغرس لأنهم وضعوا في حساباتهم مسبقاً احتمال فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن وكذلك احتمال رفض الرئيس ترامب للنتيجة واحتمال حدوث حالات من العنف، كما أنهم ركزوا انتباههم على انتخابات مجلس الشيوخ وتداعياتها على قدرة الرئيس المنتخب على تمرير قوانين سريعة بعد تنصيبه بعد 10 أيام، بما في ذلك إجازة حزمة مالية تحفيزية أكبر من التوقعات وتقديم مساعدات أكبر للمجتمعات الفقيرة في المدن الأميركية والريف.