استمع إلى الملخص
- الفوارق بين الدولة والشركة: إدارة الدولة تختلف عن إدارة الشركة، حيث تهدف الدولة لتحقيق الربحية الاجتماعية العامة وليس المالية المباشرة، مما يتطلب تجاوز منطق التعادل التكاليفي.
- تغوّل الحكومة على الإنفاق الضروري: الأزمة المالية دفعت الحكومة لتقليص الإنفاق على الأولويات الاجتماعية والتنموية، مما يعزز تصور الدولة ككيان مستقل بمصالح خاصة ويضعف دورها التنموي.
يكاد لا يخلو خطاب حكومي في مصر مؤخراً من الحديث عن الأعباء والتكاليف التي تتحمّلها الحكومة عن الشعب، حتى ليخيل لي أنه لو زارنا كائن فضائي لا يعرف شيئاً عن أنظمة الأرض؛ لأعتقد أن الحكومة المصرية كيان خيري يتفضّل على الشعب بكرم حاتمي، يجدر بالأخير أن يتحلّى بالكرامة ويعفيها منه، خصوصاً مع تلك الأعباء المُتزايدة والتكاليف الثقيلة في وضع أزمة مالية واقتصادية متفاقمة.
لكن بعيداً عن هذه السيكولوجية الغريبة الكامنة في تصريحات المسؤولين في مصر والتي تعكس تصوّرًا مغلوطاً عن ماهية الدولة وعلاقتها بالشعب، فالأهم هو ما يغلب على هذه التصريحات من ضيق أفق مُتزايد تجاه القضايا والإشكالات الاقتصادية للبلد، حتى لتبدو كما لو كانت الحكومة قد أصبحت تتصوّر نفسها أساساً مجرد "إدارة مالية" في إحدى الشركات، مشغولة بشكل شبه حصري بخفض التكاليف وضبط الإنفاق، من دون أن ترتقي حتى إلى مستوى مجلس إدارة معني بالاهتمامات والمصالح الأوسع للشركة من عمليات إنتاج وتسويق ومبيعات وشؤون عاملين... إلخ، ناهيك عن كوننا نتحدث في الأصل عن دولة، وليس شركة.
في مصر... دولة لا شركة
لا شك أن منطق عمل وإدارة دولة يختلف جذرياً عن نظيره للشركة، ليس في قواعد الإدارة الأساسية ومبادئ الرشادة العامة الحاكمة لكافة أنواع المؤسسات الحديثة بالطبع، بل أساساً في منطق وطريقة ترتيب الأولويات وصنع القرار العام من جهة، وفي معنى ومحتوى الأهداف والمصالح المُتوخّاة ضمنها ابتداءً من جهة أخرى؛ ما ينتج عن الفوارق الجوهرية بينهما، التي من بينها وعلى رأسها، أولاً، أن الحكومة ليست كياناً مستقلاً مملوكاً للبيروقراطية أو يخصّ فئة مُحددة من الناس، بل وكيل عن كامل الشعب، مالكها الحقيقي وسيدها النهائي، وثانياً، أنها حسب المُفترض، ليست مؤسسة ربحية تعني بحسابات المكسب والخسارة أو حتى التعادل التكاليفي بمعانيهما النقدية الضيقة.
لهذا ليس من المنطق أن تتصرّف حكومة مصر كما لو كانت مؤسسة تقليدية تستهدف الوصول إلى "نقطة التعادل" بين الإيرادات والتكاليف في كافة أوجه نشاطها، ناهيك عن أن تستهدف الربح كأي شركة، فحتى الضبط والتوازن المالي بين الإيراد العام والإنفاق العام مع ضرورته على المستوى الكلي للموازنة العامة في الأجل الطويل، لكنه ليس حتمياً في الأجل القصير في أوقات الركود مثلاً، ويكاد يستحيل تحقيقه على مستوى كل مجال أو نشاط اقتصادي أو اجتماعي على حِدة، خصوصاً مع ما يستحيل تقييمه بمعايير الربحية أو حتى حساب نقاط تعادله المالية، كخدمات الدفاع والأمن والعدالة على النطاق الأضيق، ومجالات البنية التحتية والسلع العامة ورأس المال البشري وما شابه على النطاق الأوسع.
فمع تعقّد الاقتصادات والمجتمعات الحديثة؛ أصبحت الدولة معنية بمزيج مُتزايد من المهام الاقتصادية والاجتماعية، ليست مُربحة بالمعنى المالي المباشر، ولا تحقّق عوائد ملموسة في مدى زمني مقبول؛ فلا يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص، رغم أهميتها البالغة لكامل عمل الاقتصاد؛ لهذا أصبحت من صميم عمل الحكومة على أساس ربحيتها الاجتماعية العامة، لا المالية أو النقدية المباشرة.
وقد كان أحد أبرز الآثار الفكرية لخبرة الكساد العالمي الكبير منذ ما يقرب من قرن من الزمان هو انهيار أساطير المدرسة النيوكلاسيكية عن التوازن التلقائي للاقتصاد، ومعها ضرورة توازن الموازنة العامة في الأجل القصير، بل أصبح الاقتصاديون تحت تأثير الكينزية الصاعدة وقتها يتحدثون عن دور الموازنة في دعم الاقتصاد؛ باعتبارها مجرد أداة من أدوات توازنه ووسيلة من وسائل دفع النمو، بما يعنيه ذلك من أولوية التوازن الكلي والنمو الاقتصادي على الانضباط الكامل للمالية والموازنة في الأجل القصير.
وهو التصوّر الذي تطوّر لاحقاً، مع الوعي المُتزايد بتعدّد وتشابك أبعاد ومكوّنات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، ليشمل عناصر جديدة ما كانت لتخطر ببال كينز وأتباعه ولا بتصوّر التنمويين من بعدهم حينما تحدّثوا عن دور الموازنة العامة في الاقتصاد الكلي، كدعم مكوّنات رأس المال البشري بما تقوم عليه من تعليم وصحة، ومعالجة أوجه فشل السوق في توفير السلع العامة، بما يشمله من توفير الخدمات الإنتاجية والاجتماعية، كقطاع النقل العام والطاقة والمياه ومكافحة الفقر؛ بما لكل هذه القطاعات والمكوّنات الهامة من آثار تكاليفية متشعّبة بكافة أرجاء الاقتصاد وآثار وانعكاسات اقتصادية واجتماعية طويلة المدى.
لهذا لا تُعالج الدولة كافة أشكال إنفاقها العام، سواء الاستثماري أو الجاري، بمنطق التعادل التكاليفي أو الربحية المالية وحده؛ فهى ليست كياناً مُستقلاً يتصرّف في الموارد لحساب توازنه الخاص، بل هي بماليتها ملك للشعب وجزء من البلد؛ بما يجعلها جزءاً من توازنهما الاقتصادي وأداةً له وليس العكس، خصوصاً أن هذه الموارد ليست شيئاً يخصّها أو يعود إليها، بل يعود إلى الشعب، الذي لا تمثّل الدولة سوى مجرد وكيل مُؤتمن على إدارة مصالحه.
المالية تلتهم الاقتصاد في مصر
لكن المُلاحظ مؤخراً هو تغوّل حكومة مصر المتزايد على كثير من جوانب الإنفاق الضروري والأولويات الاجتماعية والتنموية، كالإنفاق على التعليم والصحة، ودعم الخدمات الأساسية كالنقل والكهرباء والمياه (بافتراض جدلي أنها لا تزال تدعمها جدياً بعد جرعات خفض الدعم المتتالية طوال العقد الأخير)، ما قد يبدو مفيدًا من الزاوية الضيقة للضبط المالي لمؤسسة خاصة، لكن ليس من الزاوية الأوسع للواقع الاقتصادي والاجتماعي لدولة ومجتمع.
والواقع أنه تحت ضغط الأزمة المالية المُتفاقمة، يزداد ضيق الأفق الاقتصادي للسياسات العامة المصرية عموماً؛ حيث تنطلق بصورة مُتزايدة من الاعتبارات والحسابات المالية الصِرفة، من دون تقدير أو اهتمام بالاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية الأوسع نطاقًا، ناهيك بالاستراتيجية الأطول أجلاً.
تتجلّى مظاهر ذلك في كافة الممارسات الحكومية مؤخرًا، خصوصًا في صياغة وتركيب الموازنة العامة التي تغلب عليها بشكل مُتزايد مدفوعات خدمة الديون التي تلتهم سنة وراء أخرى حصصاً أكبر فأكبر من الإيرادات العامة، ومعها المزيد من مُخصصات غيرها من أوجه الإنفاق الحقيقية، والأكثر إيجابية، سواء الإنفاق الجاري أو الاستثماري.
وهي نتيجة طبيعية لسياسات الاستدانة المُفرطة التي اتبعتها الحكومة المصرية طوال العقد الأخير، مع تفاقم الآثار التراكمية للعجز المالي المُزمن، ومفاقمة خفض العملة أعباءَ الديون بالعملات الأجنبية، وعدم قدرة أيّة زيادة في الإيرادات الضريبية في سياق حالتيّ الركود والإفقار المُتزايدتين على تعويض أو تحمّل أعباء هذه الاستدانة المُتسارعة، التي تضاعفت ضمنها ديون مصر الخارجية والداخلية عدة مرات خلال عشرة أعوام لا غير.
لكن تتجلّى أبرز مظاهر ذلك التغوّل، بدفع خاص من الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي، في إلغاء الدعم وتصفية مجانية التعليم والرفع المُتسارع لأسعار السلع والخدمات العامة، فضلاً عن بيع الأصول الوطنية؛ باعتبارها أدوات لزيادة الإيرادات وتقليص النفقات، لا تقدّم سوى حلول قصيرة الأجل لإشكالات عميقة طويلة الأجل، بل والأدهى، بتكاليف اقتصادية أكبر وخسائر اجتماعية طويلة الأجل، لكن ليس بعدسة الحكومة المالية، ضيّقة الأفق قصيرة النظر؛ نتيجة لضعف تمثيلها الشعبي، الذي يمثّل جوهر الأزمة النهائي.
ولا ينفصل ذلك عن حقيقة تصوّر هذه الحكومة لكامل موقع ومستقبل مصر في الاقتصاد العالمي، التي لم تعد ترى فيها سوى دولة طرفية تابعة مهمتها الوحيدة تقريباً هى إدارة السوق الهامشية وتفريغها لحساب رأس المال العالمي والإقليمي وشركائه المحليين، ولو على حساب المتطلبات الاستراتيجية للنمو والتطوّر المحليين، ما تعزّز مُؤخراً بتعزيز التبعية المالية والنقدية والرأسمالية ضمن رضوخ الحكومة المصرية لبرامج صندوق النقد المتتابعة، المعنية أولاً وأخيراً بتأمين حقوق الدائنين؛ بتكريس كامل المالية العامة الوطنية لسدادها، خصوصاً مع تجاوز مُستحقات الديون كافة بنود الإنفاق الأخرى بالموازنة.
فالمالية العامة لأي دولة لا تعكس فقط وضعها وأولوياتها من جهة حدود ومصادر الإيرادات العامة وأولويات ومصارف النفقات العامة، بل تمثّل تجسيداً مركّزاً لكامل المنطق الحاكم بها وتوجّهها السياسي وانحيازاتها الاجتماعية بوجه عام، ما يذكّرنا بقول الاقتصادي النمساوي الكبير جوزيف شومبيتر: "إن روح شعب ما ومستواه الثقافي وتركيبته الاجتماعية والمآثر التي تصبو إليها سياساته، كل هذا مكتوب وأكثر في تاريخه المالي مُجرداً من كل العبارات، ومن يعرف كيف يُصغي إلى رسالته، يميّز صوت تاريخ العالم مُدوياً كالرعد بشكل أوضح من أي مكان آخر".
"سوقنة" السلع العامة في مصر
وتمثل سوقنة السلع العامة، أي تركها بالكامل لمنطق السوق الحرة، إحدى أوجه هذه الممارسات المالية ضيقة الأفق؛ فالسلع العامة تمثّل إحدى حالات فشل السوق، حتى لدى الفكر الاقتصادي النيوكلاسيكي الليبرالي، فهي سلع لا يمكن الاكتفاء بتخصيص السوق الحرة لها لضمان إنتاجها وتوزيعها بالكفاءة المطلوبة؛ ما يجعل تدخل الدولة، سواء بالحوافز غير المباشرة أو حتى بالإنتاج والتقديم المباشر، ضرورة لتحقيق حد أدنى من كفاية العرض وعدالة التسعير.
ويزداد الأمر أهميةً عندما تتشابك هذه السلع بعلاقات عديدة ومعقدة مع بقية قطاعات وأنشطة الاقتصاد القومي، كتأثيرات منتجات الطاقة وخدمات النقل شديدة التشعّب، فضلاً عن أن تكون سلعًا وخدمات ذات انعكاسات استراتيجية طويلة الأجل على كامل اتجاهات النمو والأداء الاقتصادي، كسلع وخدمات التعليم والصحة المُحدّدة لنوعية رأس المال البشري بخاصة، فتؤثر هذه النوعية من السلع على حجم المعروض من العمالة والسلع الإنتاجية من جهة، كذا، ومن ثم، تؤثّر على مُجمل هياكل التكاليف والأسعار في كافة القطاعات، ومعها النمو الاقتصادي ومستوى المعيشة، من جهة أخرى.
ومنطقياً، في بلد واقتصاد بحجم مصر، تفوق هذه الخسائر -المتشعّبة عبر كافة قطاعات الاقتصاد- بما لا يُقاس، حجم ما تتكلّفه الحكومة من إنفاق عام في سبيل معالجة عجز السوق عن توفير السلع والخدمات العامة بالقدر والسعر المناسبين، خصوصًا مع أثر "المُضاعف الكينزي" الذي يُزيد الدخل القومي بأضعاف الاستثمار أو الإنفاق الأوّلي بحسب عدد مرات دورانه في الاقتصاد، لكنه في هذا السياق، مع سحب ذلك الاستثمار أو الإنفاق الأوّلي من الاقتصاد (سواء لصالح الديون أو غيرها)، يعمل في الاتجاه العكسي، أي يخفض الدخل القومي بنفس مقدار هذه الأضعاف، ومرةً أخرى، ما يفسّر استسهال اختيار مالي غير رشيد استراتيجيًا كهذا هو أن الخسائر الاقتصادية والاجتماعية على الاقتصاد والشعب، فيما الوفر المالي للحكومة!
بيع الأصول الوطنية المصرية
على الجبهة الأخرى، في سياق الأزمة المالية، وضمنها أزمة احتياطي النقد الأجنبي خصوصًا، بدا بيع الأصول العامة حلاً سحرياً سريعاً للأزمة المُركّبة، كما ظهر بوضوح في صفقة رأس الحكمة التي أنقذت الاقتصاد المصري بحق من أزمة شحّ دولاري، والأهم أزمة ثقة، كادت تُطيح الجنيه المصري إلى مستويات غير مسبوقة، تجلّت بوادرها في أسعار السوق السوداء التي تجاوزت سبعين جنيهاً لكل دولار.
هذا البيع الذي أنقذ الموقف في لحظة ما فتح باب شر هائل على مصر؛ كونه وفّر ملاذاً آمناً لاستمرار ضعف الرشادة المالية للحكومة التي قد تستسهل الاستمرار في الهدر المالي والاعتماد على بيع أصول جديدة مع كل أزمة سداد مفصلية، بدلاً من الحل الاستراتيجي المنطقي الذي يبدأ بمعالجة قنوات ومسارب الهدر والفساد، وإصلاح ورفع كفاءة النظام الضريبي والإدارة العامة والمحلية، وتقليص الموازنات الاستثمارية اللاعقلانية في مشروعات محدودة الجدوى الاقتصادية وما شابه.
لكن مرةً أخرى، نواجة ذات المنطق المُعوَج للدولة الأقرب لشركة، حيث منافع بيع الأصول العاجلة توفّر موارد مالية مباشرة لحل أزمة الحكومة، فيما الخسائر الاقتصادية والاجتماعية الكلية بعيدة المدى، ويتحمّلها عموم الشعب القابع عاجزاً كثُلّة أيتام على موائد اللئام.
تحلّل الدور التنموي والسياساتي للدولة
إن خطورة هذا الاتجاه من تزايد ضيق أفق السياسات الاقتصادية إلى حدود العدسة المالية المحاسبية يتجاوز الخسائر الاقتصادية والاجتماعية المباشرة، لعدم قيام الدولة بأدوارها المطلوبة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي الكلي، إلى خسائر استراتيجية على صعيد كامل العملية التنموية، فضلاً عن تعزيز المنطق المُعوَج سالف الذكر الذي يستبطن تصوّر الدولة بوصفها كياناً مستقلاً ذا مصالح وحسابات خاصة منفصلة عن البلد والشعب، والذي يتصل بصورة ما بالإشكالية التي وصفها سامر سليمان منذ أيام مبارك بعنوان كتابه "النظام القوي والدولة الضعيفة" (الدار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2005)، حيث تدفع الأزمة المالية المتفاقمة بالنظام أو الحكومة إلى ممارسات لتعزيز قوتهما المالية بالتحلّل من الدور التنموي والسياساتي للدولة، بحيث يتجاوز الأمر مجرد قِصر النظر المالي المُنعكس بخسائر اقتصادية واجتماعية كلية إلى وضع سرطاني تُوزع ضمنه الموارد بطريقة مُشوّهة تكفل قوة النظام على حسب ضعف الدولة.