يعاني اليمن من أزمة نقدية خانقة طفت تأثيراتها على يوميات المواطنين وعلى مؤشرات الاقتصاد منذ نهاية العام الماضي. وتتزايد حدة هذه المشكلة في البلاد وسط الاختلال في آليات مكافحة غسل الأموال واتساع اقتصاد الحرب القائم على العديد من التجاوزات المالية والنقدية، ما يزيد من التعقيدات التي يتم التعامل معها بصورة عشوائية بعيداً عن الدوائر والقنوات الرسمية المختصة بمعالجتها. وتحرص السلطات على التقليل من شأن التحديات التنظيمية للتعامل بالنقد في اليمن خوفاً من اهتزاز علاقتها بالمجتمع المالي والمصرفي الدولي منذ نقل إدارة البنك المركزي اليمني من العاصمة اليمنية صنعاء إلى عدن التي اتخذتها الحكومة المعترف بها دولياً عاصمة مؤقته لها نهاية العام 2016.
يقول معنيون بالملف النقدي لـ"العربي الجديد" إن ضعف آليات مكافحة تبييض الأموال وتتبع الحركة النقدية يعد مشكلة كبرى تكاد توازي الحرب والصراع المحتدم في البلاد. ويلفتون إلى أن الانقسام المالي والمصرفي تحول منذ مطلع عام 2017 إلى ما يشبه كرة النار المتدحرجة، والتي ألقت بظلال قاتمة على المستويات الاقتصادية وعمقت الأزمة الإنسانية والتدهور المعيشي وتهاوي العملة، كما ساهمت في اتساع الاقتصاد الموازي الذي تديره أطراف الحرب ويتسبب بإطالة أمدها منذ ست سنوات.
وتلفت المصادر إلى فقدان اليمن ما كان متوافرا ومتاحا من منظومة قانونية وتشريعية خاصة بغسل الأموال تديرها مؤسسات رسمية متماسكة مثل البنك المركزي عبر دائرة خاصة بهذا الشأن ولجنة وطنية عامة معنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
الخبير في الأنظمة المصرفية الخاصة بمكافحة غسل الأموال والباحث في معهد الدراسات المصرفية، أنور ثابت، يرى في هذا الخصوص في حديث مع "العربي الجديد"، أن الحرب توسع عملية تدوير الأموال وتساهم بخلق منافذ خاصة في إطار غير شرعي وغير قانوني، نظراً لازدهار العديد من الأنشطة المشبوهة في مثل هذه الأوضاع.
ويشرح أنه مع انتشار وتعدد أطراف وفصائل الحرب يتم فتح خطوط داخلية وخارجية مالية ومصرفية وتجارية تنتهي عند مافيا تجارة الأسلحة التي تنشط في بيئة الحروب والصراعات والتي تعتبر مرتعاً خصباً لنمو تجارتها كما هو حاصل في اليمن.
وتبرز قضية مكافحة غسل الأموال عقبة رئيسية في علاقة اليمن مع المؤسسات والصناديق المالية الدولية، ومحور المناقشات والمباحثات الدائرة بين الحكومة اليمنية ممثلة بالبنك المركزي اليمني ووزارة المالية والتخطيط والتعاون الدولي مع الجهات الدولية المعنية كصندوق النقد والبنك الدولي، واللذين يسعيان بدلاً من تقديم المنح والقروض والمساعدات وتطوير التعاون المالي، إلى اقتراح آليات حول كيفية سد الثغرات والمنافذ التي تسببت بها الحرب والانقسام في النظام المالي والمصرفي في اليمن.
في مطلع العام الماضي، جددت المفوضية الأوروبية موقفها في إبقاء اليمن في قائمة سوداء محدثة تضم مجموعة من الدول تشكل أخطارا مالية على الاتحاد الأوروبي، بسبب ما تعاني منه البلاد من اختلالات وقصور في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
تأثير الانقسام
وبالرغم من حرص البنوك اليمنية على التقيد بقوانين مكافحة وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، كان البنك المركزي اليمني قبل انقسامه بعد قرار نقله من العاصمة صنعاء إلى عدن في سبتمبر/ أيلول 2016 يقوم بمراقبة التطورات في القطاع المصرفي بعناية كاملة بناءً على بيانات دورية يتلقاها من البنوك اليمنية تغطي كافة جوانب النشاط المصرفي، وفق آلية ترتبط بتوفير الحماية الكاملة لأصول البنوك وأموال المودعين فيها.
ويؤكد رئيس جمعية البنوك اليمنية محمود ناجي لـ"العربي الجديد"، على أنه رغم الظروف الصعبة التي انتجتها الحرب وألقت بظلالها على القطاع المصرفي اليمن، إلا أن البنوك اليمنية حريصة على اتباع الضوابط والمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال ومنع تمويل الإرهاب، والذي يأتي في إطار إدراكها بأن عملية تماسكها وبقائها تتطلب المحافظة على علاقتها المتينة مع النظام المصرفي الدولي والبنوك والمؤسسات المالية الخارجية، ومستوى ما تنفذه من إجراءات للتصدي لعمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويلفت إلى أن البنوك اليمنية تعمل في إطار القوانين واللوائح والتعليمات المنظمة لتحويل الأموال والهادفة إلى مكافحة غسل الأموال ومنع تمويل الإرهاب، ويرتبط عملها كما كان قائم سابقاً قبل الانقسام المالي بالمؤسسات والدوائر الحكومية المختصة في هذا الجانب مثل اللجنة الوطنية العليا لمكافحة غسل الأموال، ووحدة جمع المعلومات في البنك المركزي.
وكانت الثقة بالنظام المالي والمصرفي اليمني ومستوى ارتباطه بالأنظمة والإجراءات الدولية الخاصة بمكافحة الأموال غير المشروعة، تستند بنسبة كبيرة إلى نشاط هذه المؤسسات والدوائر المتخصصة في إجراءات المكافحة في ونشر الوعي في الأوساط المالية والمصرفية بخطورة نشاط غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتفعيل أطر الرقابة الداخلية واستيفاء كل الإجراءات الإدارية والقانونية الموضوعة لفرز العمليات المشبوهة والإبلاغ عنها إلى البنك المركزي والسلطات القضائية المختصة بمكافحة هذه الأنشطة المالية المشبوهة.
ويقول المستشار القانوني السابق في محكمة الأموال العامة، أكرم العلواني، إن الاختلال في منظومة المكافحة لا يتوقف عند الجانب الإداري والقانوي المنظم للعمل المصرفي، بل يشمل أيضا أجهزة القضاء والنيابات العامة وأجهزة الضبط المختلفة، فالعمل في هذا الجانب عبارة عن منظومة متكاملة إدارية وقانونية وقضائية وتشريعية وتنفيذية.
ويرى في حديث مع "العربي الجديد"، أن أجهزة الضبط الاّخرى في اليمن مثل الأجهزة القضائية والنيابية ودوائر أخرى مثل أنظمة وشبكات الاتصالات والعدل والإدارات القانونية المتعددة، تفتقد للكوادر المتخصصة في عملية فهم وتتبع ورصد الأموال غير المشروعة وأطر المكافحة وتجفيف منابع الأموال المشبوهة، وهي مشكلة مزمنة منذ ما قبل الحرب والتي جاءت لتوسع هذه الفجوة والمشكلة التي تحولت إلى أزمة عامة هزت علاقة النظام المصرفي والمالي في اليمن بالمؤسسات والأنظمة المالية والمصرفية الدولية.
اختلال وتعقيدات
بدوره، يرى الباحث الاقتصادي إبراهيم عبيد خلال حديثه مع لـ"العربي الجديد"، أن كل هذه المشاكل والاختلالات واهتزاز هذه العلاقة، خصوصا مع مؤسسات النقد الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد، أفرزت الكثير من التعقيدات على المستويات المالية والنقدية التي يعاني منها اليمن مثل إحجام الجهات المانحة على مساعدة البنك المركزي بمنح مالية أو ودائع أو قروض تعينه على مواجهة أزمة السيولة من النقد الأجنبي مع نفاذ الاحتياطي النقدي، إضافة إلى أزمات الاستيراد وفتح الاعتمادات المستندية وعملية نقل الأموال وتدويرها في قنواتها الرسمية.
ويشير القانون اليمني رقم 33 الصادر في عام 2003 إلى أن غسل الأموال جريمة يعاقب عليها بموجب أحكام هذا القانون ويعد مرتكبا لجريمة غسل الأموال كل من قام أو اشترك أو ساعد أو حرض أو تستر على مجموعة من الجرائم التي حددها القانون مثل السرقة أو اختلاس الأموال العامة أو الاستيلاء عليها بوسائل احتيالية أو الرشوة وخيانة الأمانة، والاستيلاء على أموال خاصة معاقب عليها في قانون الجرائم والعقوبات.