استمع إلى الملخص
- **أسباب الفقر وتوزيع الضرائب**: يشير ماثيو ديسموند إلى أن الفقر ينتشر بسبب فساد النظام الرأسمالي والتهرب الضريبي للأثرياء، بينما تُفرض الضرائب بشكل كامل على العمال والموظفين ذوي الدخل المتوسط والمنخفض.
- **التحديات البنيوية والسلوكية للفقر**: تختلف آراء الجمهوريين والليبراليين حول أسباب الفقر، ويعاني الأميركيون من انعدام الأمن الاقتصادي بسبب ضعف نظام الضمان الاجتماعي وارتفاع تكاليف المعيشة.
انتهت أسطورة " أميركا بلد الأحلام" منذ مدة طويلة وفق بعض المحللين، وتشير البيانات المالية والاقتصادية إلى التناقضات الصارخة في أميركا حالياً، حيث يتجاور الثراء الفاحش جنباً إلى جنب مع الفقر المدقع، ويكفي فقط أن تأخذ رحلة قصيرة في مدينة المال العالمية نيويورك، بقطار الأنفاق من وسط حي مانهاتن حيث تتزاحم ناطحات السحاب إلى أحياء برونكس أو هارلم، أو حتى تتجول سيراً على الأقدام حتى تجد نفسك في مناطق مدقعة الفقر، وكأنك في دولة أخرى من الدول البائسة في أفريقيا أو أميركا الجنوبية. ويحدث هذا بينما توجد في المدن الكبرى مثل نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو، ناطحات السحاب والصواريخ الفضائية، والمليارديرات مثل جيف بيزوس، ووارن بافيت، وبيل جيتس، وإيلون ماسك.
ووفق الأرقام، فإنه في الوقت الذي يتزايد فيه عدد كبار الأثرياء أو" القارونيين"، في المجتمع الأميركي يتزايد أيضاً عدد الفقراء. ويقول عالم الاجتماع في جامعة برينستون، ماثيو ديسموند، في كتابه "الفقر في الولايات المتحدة"، الصادر في العام الماضي، رغم أن الولايات المتحدة، دولة ثرية بشكل مذهل، فإن واحداً من كل تسعة أشخاص وواحداً من كل ثمانية أطفال يعتبر فقيراً من الناحية الرسمية. ويقول إن هذه الأرقام لم تتغير إلا قليلاً على مدى نصف قرن.
ويرى محللون أن هنالك العديد من الأسباب المسؤولة عن الفقر في الولايات المتحدة وعلى رأسها فساد النظام الرأسمالي الذي يعتمد على الأثرياء في الوصول إلى السلطة ويشكلون سياسات الضرائب. وعادة يستغل الأثرياء الثغرات الموجودة في النظام الأميركي للتهرب من دفع ضرائب على ثرواتهم.
ووفق حسابات وكالة موديز للتصنيف الائتماني، الحكومة الأميركية ستتمكن عبر زيادة الضرائب على الشركات والأفراد الذين يزيد دخلهم في العام عن 400 ألف دولار، من جمع ضرائب إضافية تقدر بنحو 4.1 تريليونات دولار خلال عشر سنوات، كما كانت ستتمكن كذلك من جمع 267 مليار دولار من الضرائب على العقارات الفخمة التي يزيد سعرها عن 3.5 ملايين دولار، وذلك عبر فرض ضريبة بنسبة 40% على العقارات الفخمة، اقترحها الرئيس جو بايدن، إلا أنها لم تطبق ذلك.
وفي المقابل تؤخذ الضرائب كاملة من العمال والموظفين ذوي الدخل المتوسط والمنخفض. ومن ثم يقع عبء تمويل النفقات في الولايات المتحدة على أصحاب الدخل المتوسط والأدنى، بينما يحصد الأثرياء فوائد القوانين الضريبية.
وتتراوح حجج الفقر وأسبابه في أميركا، بين الجمهوريين الذين يرون أن العقبات الأكثر أهمية في تزايد الفقر في البلاد هي سلوكية، ومن بينها التفكك الأسري والعادات المنهكة مثل التبعية والكسل، ويعتقدون أن هذه العادات تتفاقم بسبب تلقي الإعانات الحكومية. بينما يرى الليبراليون أن المشكلات الحقيقية للفقر بنيوية من بينها العنصرية وتراجع التصنيع، التي يرون أنها أدت إلى ترسيخ عدم المساواة ومنع الفئات المحرومة من المشاركة في ازدهار البلاد.
وتشير البيانات الرسمية الأميركية، إلى أن واحداً من كل عشرة أميركيين يعتبر فقيراً بالمقاييس الرسمية. ووفقًا لمكتب الإحصاء الأميركي، بلغ معدل الفقر الرسمي بالولايات المتحدة في عام 2021، نسبة 11.6%، أي إن نحو 37.9 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر، كما يتزايد عدد الأسر المكونة من ثلاثة أفراد التي يقل دخلها عن 21.559 دولاراً في العام. ووسط هذا التضارب في أسباب الفقر تشير بيانات " موقع ستاتيستا" المنشورة في 4 يوليو العام 2024 إلى أنه يوجد 47 مليون شخص يزيد دخلهم على 100 ألف دولار في العام و22.7 مليونير في الولايات المتحدة.
وهو ما جعل الكاتب الاقتصادي مارك رانك يتساءل في كتابه المنشور في العام 2023 بعنوان "الفقر في الولايات المتحدة"، لماذا الفقر في أغنى دول العالم. ويقول رانك إن "الفقر في أميركا ينتشر في المناطق الريفية والحضرية والضواحي، التي تضم في الواقع بعضاً من أكبر أعداد الأشخاص الذين يعانون الفقر. ويقول " من حيث العرق، الفقرُ سيف ذو حدين. إن ثلثي الفقراء في الولايات المتحدة هم من البيض؛ ومع ذلك، إذا لم تكن أبيضَ، فأنت في خطر أكبر بكثير للوقوع في مستنقع الفقر".
ويقول لهذا السبب أقول، إن نطاق الفقر واسع جداً في الولايات المتحدة. ويرى أن خطر الفقر سيتزايد في العشرين أو الثلاثين عاماً المقبلة، وأن الغالبية العظمى من الأميركيين سوف يعانون الفقر في مرحلة ما. ويرى رانك أن السبب في ذلك هو أن الأميركيين يعانون انعدام الأمن الاقتصادي معاناة أكبر من نظرائهم في الدول الصناعية الغربية الأخرى. ويعمل الكثير منهم في وظائف منخفضة الأجر لا تكفي لمتطلبات المعيشة. فإذا فقدوا تلك الوظيفة أو أصيبوا بالمرض، فليس هناك الكثير لحمايتهم، بسبب ضعف نظام الضمان الاجتماعي. ويقول غالبية البالغين الذين يعيشون في فقر يعملون ولديهم تعليم ثانوي على الأقل.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دولة غنية نسبيّاً وفقًا للمعايير الدولية، إلا أنها تعاني معدل فقر مرتفعاً باستمرار مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى نظام الرعاية الاجتماعية الأقل سخاءً. وتظهر الأبحاث الحديثة أن "أرض الفرص" توفر في الواقع قدراً أقل من الأمان الاقتصادي مقارنة بالعديد من نظيراتها المتقدمة اقتصادياً.
من جانبه يرجع معهد الفقر الأميركي، تزايد الفقر في الولايات المتحدة إلى ارتفاع معدل البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع أسعار الإيجارات وغلاء التعليم والرعاية الصحية وارتفاع التضخم، ومن ثم كلف المعيشة. وهذه العوامل تجعل من الصعوبة على العائلات الخروج من شراك الفقر.
ويقول الكاتب رانك، "لقد أصبح الأمر أكثر خطورة في ما يتعلق بالفقر، حيث إن الولايات المتحدة رغم أنها غنية جداً من حيث الدخل العام ويبلغ حجم اقتصادها نحو 28 تريليون دولار في العام الحالي 2024، تقود دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في الفقر، ولديها أيضاً أكبر قدر من عدم المساواة في الدخل والثروة".
ويقول الاقتصادي رانك، مع اتساع فجوة توزيع الدخل، تباعدت درجات سلم الدخل، مما يجعل من الصعب على الناس الارتقاء إلى أعلى. كما يرجع التفاوت الطبقي الحاد بين أفراد المجتمع في أميركا إلى تشوه لحمة الأيديولوجيات السياسية وتناقض السياسات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وفي عام 1964، أعلن الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون الحرب على الفقر، وقال للكونغرس في خطاب حالة الاتحاد: "لن يهدأ لنا بال حتى ننتصر في تلك الحرب ... أغنى دولة على وجه الأرض يمكنها أن تفوز في الحرب ضد الفقر.
ولكن انتهت ولاية جونسون من دون تحقيق تحسن ملموس في نسبة الفقر، ثم جاء انتخاب رونالد ريغان، الجمهوري الذي أعلن هو الآخر حربه ضد الفقر قائلاً "لقد خضنا حرباً على الفقر، وانتصر الفقر وحان الآن الانتصار في المعركة". ورغم أن الدين العام كان صغيراً في عهد ريغان مقارنة بحجمه الحالي البالغ نحو 35 تريليون دولار، ظل معدل الفقر يواصل الارتفاع، ولم تتمكن إدارة ريغان من تمرير قوانين تساهم في رفع الإنفاق على الرعاية الاجتماعية ومساعدة العائلات الفقيرة على تحمل كلف تعليم أبنائهم في الجامعات أو المساهمة في دفعيات كلف الرعاية الصحية. وحدث ذلك أن دين الحكومة كان صغيراً وقتها. وحُدِّدت أسباب الفقر بأنها مسألة فردية.
ويرى رانك الذي شملته كتبه السابقة العيش على الحافة: حقائق الرفاهية في أميركا وأمة واحدة والمحرومين ولماذا يؤثر الفقر الأميركي علينا جميعاً، أن الأجور الحقيقية ظلت راكدة في أميركا منذ ذروتها في عام 1973. ولاحظ محللون أن الأثرياء يفرضون إيجارات في الأحياء الفقيرة ضعف معدل الإيجارات في المدن، كما أن أصحاب المصانع ساهم مساهمة مباشرة في قتل النقابات العمالية بحجة أنها تعمل ضد نمو ازدهار الاقتصاد.