تبنت الحكومة الإيرانية مشروعاً موسعاً لمقايضة النفط والمكثفات الغازية بالسلع الأساسية، وكذلك بالاستثمارات في القطاعين النفطي والغازي، في رسائل تظهر تخطيطها التعايش لفترة أطول مع العقوبات الأميركية وإدارة اقتصادها المترنح على أساس استمرار الحظر.
وتبدو طهران أكثر إصراراً على تقديم تسهيلات واسعة، نظير الحصول على استثمارات في قطاعي النفط والغاز تحديداً، لحاجتهما إلى هذه الاستثمارات للحفاظ على قدراتهما الإنتاجية، وسط مخاوف من تراجعها نتيجة تهالك صناعات هذه القطاعات، فضلا عن انعكاس الأمر على قطاع الكهرباء، الذي ثمة توقعات بحدوث انقطاعات فيه خلال الشتاء المقبل بشكل أقسى من الربيع والصيف، فضلا عن عجز متوقع للغاز خلال الشتاء، ما يسبب مشاكل في توفيره للاستهلاك المنزلي.
يأتي المشروع الحكومي بعد تعثر مفاوضات فيينا النووية التي أُطلقت منذ إبريل/نيسان الماضي، ولم يتحدد موعد لاستئنافها بعد أن توقفت خلال يونيو/حزيران الماضي، عندما انتخبت إيران إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً لها.
وعلى الرغم من التوقعات باستئناف المفاوضات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، إلا أن محللين يرون أن "المشوار طويل" للتوصل إلى اتفاق ينهي العقوبات الأميركية مقابل عودة طهران إلى تنفيذ التزاماتها النووية، بموجب الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
تحتاج قطاعات النفط والغاز إلى استثمارات عاجلة بقيمة 15 مليار دولار، لتحديثها والحفاظ على الوضع الراهن
ورغم التفاؤل الذي ساد بمغادرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، البيت الأبيض، مطلع العام الجاري، والذي وصف بأنه مهندس استراتيجية الضغط الأقصى، ومجيء الرئيس الديمقراطي المنادي بالدبلوماسية مع إيران، جو بايدن، إلا أن جدار العقوبات السميك لم يشهد أي اختراق.
وعززت هذه الأجواء مشروعاً إيرانياً للمقايضة، يعود بالأساس إلى نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاقتصادية المرشح الرئاسي السابق، محسن رضائي، وهو ما أقرته الحكومة ضمن مشروع أكبر بعنوان "الضوابط التنفيذية للسياسات حول العملة الصعبة والتجارة لتنمية الصادرات وإدارة الواردات"، في اجتماع لجنة التنسيق الاقتصادي الحكومية يوم 26 سبتمبر/أيلول الماضي.
وجاء في مقدمة الخطة التي عممتها الحكومة أخيراً بين المؤسسات الإيرانية بعد إقرارها، أن هذه السياسات الجديدة تهدف إلى زيادة إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، وإيجاد أسواق جديدة للصادرات، وتحسين التجارة مع دول الجوار، وإدارة الواردات على المدى القصير.
وأعلنت اللجنة الحكومية، لأول مرة، ضمن الخطة، ضوابط لمقايضة النفط والمكثفات الغازية بالسلع، حيث جاء فيها: "يمكن المقايضة بجميع السلع والمواد الخام والخدمات و"تنفيذ" المشاريع التي تحتاج إليها البلاد"، مكلفة وزارة النفط بعقد الصفقات مع الشركات التي ستقوم بالمقايضة لقاء الحصول على النفط.
كما تشكّل فريق عمل في هذا الصدد برئاسة النائب الأول للرئيس الإيراني، محمد مخبر، وعضوية مندوبين من البنك المركزي ووزارات النفط والصناعات والتجارة والاقتصاد والصحة والزراعة.
وحسب الخطة، ألغت الحكومة الإيرانية القيود المرتبطة بالحد الأقصى لاستيراد السلع، فضلا عن إلغاء قيد أن تكون الشركة لديها سجل في الاستيراد، مع منح الأولوية لاستيراد مواد الزراعة والسلع الأساسية والمواد الأولية (الخام) وقطع الغيار لقطاع الصناعات.
وفي السياق، جاء إعلان وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، الأحد الماضي، عن مقايضة النفط والمكثفات الغازية بالسلع الأساسية أولا، ومقايضة النفط بالاستثمار في المشاريع النفطية كسبيل لتمويل هذه المشاريع، ثانيا.
وقال أوجي، على هامش لقائه مع أعضاء لجنة الصناعات والمناجم البرلمانية، إن هناك فرصاً داخلية وخارجية، خططت وزارته لاستغلالها واستثمارها، مشيراً في السياق إلى أنها بصدد تنويع الصفقات لأجل مقايضة النفط بالسلع الأساسية و"هناك أنباء جيدة قادمة"، حسب قوله، من دون أن يكشف عن طبيعتها.
وأضاف الوزير "ثمة حلول للاستفادة من طاقات الأجهزة لبيع النفط والمكثفات الغازية وكذلك مقايضة النفط بالسلع"، لافتا إلى موضوع مهم آخر، وهو تقديم عروض الاستثمار في القطاع النفطي الإيراني، حيث سيحصل المستثمرون على النفط والمكثفات الغازية مقابل الاستثمار.
و"سيحصل المستثمرون في مختلف القطاعات النفطية الأكثر أهمية والأقل أهمية، على النفط والمكثفات الغازية لقاء استثماراتهم"، حسب وزير النفط، الذي يأمل أن يجد النفط الإيراني طريقه إلى الأسواق العالمية من قبل المستثمرين المحليين والأجانب، وسط الحاجة المتزايدة في العالم لهذه الطاقة، وأيضا عجز الحكومة الإيرانية عن بيعها بسبب العقوبات الأميركية.
وقال أوجي إنه "من المتوقع أن يزداد الطلب العالمي على الطاقة، في ظل زيادة حاجة العالم إلى استهلاك الطاقة بنسبة 6% إلى 7% وتراجع الجائحة".
أوجي ليس أول من طرح علناً عرض مقايضة النفط باستثمار الشركات الإيرانية في المشروعات العالقة لاستكمالها، فسبق أن كشف البرلماني الإيراني بهروز محبي، عضو لجنة الموازنة، خلال الشهر الماضي، عن إعلان شركات إيرانية استعدادها للمشاركة في تنفيذ مشاريع السكك الحديدية، لقاء الحصول على النفط، مشيرا إلى وجود 60 مشروعاً عالقا للسكك الحديدية.
تحتاج إيران، البالغ عدد سكانها أكثر من 80 مليون نسمة، سنوياً إلى نحو 70 مليار دولار لتسيير شؤونها الاقتصادية وإنفاقاتها الضرورية
عجز الحكومة الإيرانية عن تمويل مشاريع النفط والغاز والمشاريع العمرانية في البلاد، يعد السبب الرئيسي لسلكها هذا الطريق المحفوف بالتحديات، إذ قال أوجي إن "الكثير من المشاريع العمرانية ظلت متعثرة ومتوقفة خلال السنوات الأخيرة، فنسعى من خلال مقايضة النفط والمكثفات الغازية إلى تمويل هذه المشاريع".
وتبدع إيران هذه الحلول للالتفاف على العقوبات الأميركية، التي استهدفت جميع مفاصل اقتصادها، في مقدمتها موارد إيراداتها بالعملة الصعبة، مثل الصادرات النفطية، لذلك بات من الصعب إدخال عوائد الصادرات الإيرانية التي تقوم بها الحكومة أو التجار بالنقد الأجنبي إلى داخل البلاد، بسبب العقوبات الصارمة المفروضة على النظام المصرفي الإيراني والتحويلات من وإلى إيران، وهو ما سبب مشاكل كبيرة في توفير موارد استيراد السلع الأساسية، فضلا عن تمويل المشاريع الإيرانية في الداخل في مختلف القطاعات، وخاصة القطاعات النفطية والغازية.
في السياق، قال رئيس منظمة تنمية التجارة الإيرانية الحكومية، علي رضا بيمان باك، في مؤتمر صحافي أخيراً، إن المنظمة قامت بإجراء تعديلات على ضوابط التجارة مع الخارج، تشمل تسهيلات لمقايضة السلع المصدرة بسلع أخرى.
وأوضح أن المصدّرين الإيرانيين لا يمكنهم إعادة عوائد صادراتهم بالعملة الصعبة، "ففي هذه الظروف يمكنهم استيراد السلع التي تحتاجها البلاد بلا حدود أو قيود". وعن مقايضة النفط بالسلع الأساسية، قال إنها "غالبا لقاء السلع الأساسية"، كاشفا عن أن هذه المقايضة قد تمت خلال الشهر الماضي لقاء استيراد العلف للمواشي، وفول الصويا والزيوت الغذائية والقمح.
وكان شح الموارد المالية والمشاكل البنكية لاستيراد السلع الأساسية خلال السنوات الأخيرة، أحد أهم أسباب غلاء أسعار هذه السلع في إيران.
فعلى سبيل المثال، كان شح طعام الدواجن والمشاكل المالية في استيراده من الأسباب الرئيسة لارتفاع سعر الدجاج في إيران خلال السنوات الأخيرة بنسبة 500%.
وتشكل عوائد الصادرات النفطية بالنقد الأجنبي شريان الاقتصاد الإيراني، إذ تحتاج البلاد، البالغ عدد سكانها أكثر من 80 مليون نسمة، سنوياً إلى نحو 70 مليار دولار لتسيير شؤونها الاقتصادية وإنفاقاتها الضرورية، من دون احتساب ما تحتاجه لدعم وتمويل مشاريع إعمارية وبنيوية.
وبلغ متوسط عوائد إيران بالعملة الصعبة، خلال السنوات العشر الأخيرة، حوالي 80 مليار دولار سنوياً، أي أنها كانت تغطي احتياجاتها الضرورية من النقد الأجنبي وكان هناك فائض، لكنها تراجعت خلال السنوات الأربع الأخيرة إلى مستويات قياسية، ليكشف نائب الرئيس الإيراني السابق، إسحاق جهانغيري، يوم 3 إبريل/نيسان 2021، عن أن إيرادات البلاد تراجعت من 100 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار خلال العام الماضي.
حسب التقديرات، تحتاج قطاعات النفط والغاز إلى استثمارات عاجلة بقيمة 15 مليار دولار، لتحديثها والحفاظ على الوضع الراهن.
وزير النفط الجديد، جواد أوجي، كان قد تحدث خلال الشهر الماضي عن تخطيط وزارته لجذب 145 مليار دولار استثمارات داخلية وخارجية خلال السنوات الثماني المقبلة، لكنه لم يوضح حينها أن إيران كيف ستتمكن من استقطاب هذه الاستثمارات الضخمة في ظل استمرار العقوبات الأميركية.
في الأثناء، بلغ أيضا حجم ديون شركة النفط الوطنية الإيرانية 70 مليار دولار، فيما ترفض البنوك الإيرانية إقراضها، حسب تقرير لوكالة "فارس" الإيرانية، نشرته يوم 15 سبتمبر/أيلول الماضي.
وما يدفع السلطات الإيرانية أكثر إلى البحث عن حلول عاجلة للاستثمار في القطاعين النفطي والغازي وتقديم عرض مقايضة النفط والمكثفات الغازية بالاستثمار في هذه القطاعات لقاء تمويلها، هو حاجة هذه القطاعات إلى هذه الاستثمارات للحفاظ على قدراتها الإنتاجية، وسط مخاوف من تراجعها نتيجة تهالك صناعات هذه القطاعات والقطاعات المرتبطة بها مثل القطاع الكهربائي.
وفي الإطار، ثمة توقعات بانقطاع التيار الكهربائي في إيران خلال الشتاء المقبل بشكل أقسى من الربيع والصيف، فضلا عن عجز متوقع للغاز خلال الشتاء، ما يسبب مشاكل في توفير الغاز للاستهلاك المنزلي للإيرانيين، وكذلك تراجع الطاقة الإنتاجية الكهربائية في المحطات التي تعمل بالغاز.
وفي السياق، كشف وزير النفط، قبل فترة، عن عجز متوقع للغاز بمقدار 200 مليون متر مكعب يومياً خلال الشتاء المقبل، قائلاً إن التقديرات تشير إلى حاجة البلاد إلى نحو 22 مليار دولار للاستثمار في الحقول الغازية خلال السنوات الست والثماني المقبلة، بسبب تراجع الضغط في هذه الحقول، وللحفاظ على الطاقة الإنتاجية الحالية.
لكن هناك سببا آخر أيضا، إلى جانب الأسباب آنفة الذكر، وهو العجز الذي تواجهه الحكومة الإيرانية في الموازنة الحالية، المقدر بحوالي 300 ألف مليار تومان (نحو 12 مليار دولار)، بسبب عدم تحقق الإيرادات المخطط لها في الموازنة، خاصة فيما يتصل بتصدير النفط، فتشير بيانات الخزانة الإيرانية، خلال أغسطس/آب الماضي، إلى أن نحو 2.5% من الإيرادات في الصادرات النفطية قد تحقق خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام المالي الإيراني (21 مارس/آذار إلى 21 يوليو/تموز).
تخطط الحكومة لجذب استثمارات في قطاعي النفط والغاز بقيمة 145 مليار دولار، خلال السنوات الثماني المقبلة، وفق وزير النفط جواد أوجي
وأوضحت الخزانة الإيرانية أنه كان قد خُطط حسب الموازنة لتحصيل إيرادات بقيمة 73 ألف مليار تومان (نحو 3 مليارات دولار) خلال الشهور الثلاثة، لكن لم يتحقق منها إلا 2500 مليار تومان (قرابة 100 مليون دولار).
ويشار إلى أن الحكومة الإيرانية رسمت موازنتها في العام الحالي على أساس تصدير 2.3 مليون برميل نفط يومياً بسعر 40 دولاراً للبرميل. علما بأن الشركات العاملة في مجال تتبع حركات ناقلات النفط قدرت خلال الربيع الماضي زيادة مطردة في صادرات النفط بنحو ضعفي الفترة نفسها خلال العام الماضي، مشيرة إلى تمكن إيران من تصدير نحو 650 ألف برميل يومياً.
وأخيراً، يرى المراقبون أن خطة الحكومة يمكن أن تحقق نجاحات للالتفاف على العقوبات الأميركية، كخطوة اضطرارية، لتوفير السلع الأساسية. لكن ثمة تساؤلات أيضا تدور حول مدى النجاح الذي ستحققه في استقطاب كم هائل من رؤوس الأموال، تحتاجها القطاعات النفطية والغازية والمشاريع الأخرى، خاصة العالقة منها، في ضوء التحديات الراهنة بشأن تصدير النفط وقدرة المستثمرين على ذلك، والبحث عن زبائن له بسبب المخاوف من العقوبات.
فضلا عن تحذيرات يطلقها مراقبون من أن مقايضة النفط بالسلع من شأنها أن تؤدي إلى تراجع الاهتمام بإدخال ما يتيسر من عوائد الصادرات الإيرانية بالنقد الأجنبي، ما من شأنه أن يتسبب في تعميق شح إيرادات البلاد من هذا النقد والأموال التي تحتاجها للإنفاقات العامة.