عادة ما يدور معظم حديث الديمقراطية والاستبداد حول مسائل الحرية والعدالة، فيما يعطى أقل الاهتمام لمسألة أخرى ربما تكون الأشد أهمية، ليس فقط لآثارها الأكثر عمقًا وإستراتيجية، بل كذلك لكونها بحد ذاتها ضرورة حتمية لمسألتي الحرية والعدالة نفسيهما؛ فالواقع أنها تكاد أن تكون القاعدة التحتية لكل شيء آخر، إنها مسألة "الكفاءة".
تلك المسألة التي لا تقتصر على مجرد هوامش حرية حركة الأفراد الحياتية وحقوقهم في التعبير بكافة أشكاله، ولا تتعلّق بمجرد أنصبتهم من ثروات وفوائض مجتمعاتهم، بل إنها لتتوسّع حتى لتشمل بتأثيراتها بقاءهم ذاته، فإذا كانت الحرية والعدالة تتعلّقان بنوعية حياة الإنسان، فردًا ومجتمعًا، فإن الكفاءة قد تعني حياتهما ووجودهما نفسيهما بقاءً وعدمًا!
وعلى المستوى الاقتصادي الأكثر تحديدًا، احتل الفساد دومًا مكانة متقدمة في عوائق الاستثمار والنمو في كافة تقارير مناخ الأعمال في المنطقة العربية، كما قدّرت بعض الدراسات آثار الفساد على الاقتصاد المصري خلال الثلاثة عقود السابقة على ثورة 25 يناير (2011) بما بلغ 3.9% انخفاضا في مستويات النمو مقابل كل 1% زيادة في مستويات الفساد، وبما وصل إلى 8% انخفاضًا إجماليًا في النمو بحساب الآثار غير المباشرة، كما احتل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي مكانةً متقدمة ضمن قنوات نقل آثار الفساد على النمو الاقتصادي.
الفساد كخصم ريعي من الكفاءة
بعيدًا من التناول الأخلاقي للفساد، فإن الفساد كظاهرة اجتماعية، هو في نهاية المطاف ممارسة ريعية، يحصّل بها ممارسها كسبًا غير مُستحق، لا تختلف في محتواها وأثرها كثيرًا عن الاستغلال والجريمة، إنه يشمل إذًا كل ممارسة ريعية تحقق كسبًا شخصيًّا لا اقتصاديًّا، أي كسب دون مساهمة اقتصادية موازية، بما تعكسه تلك الممارسة الريعية من ضَعْف كفاءة من جهة، وتكلفة اجتماعية من جهة مقابلة.
وباستبطان البعد الاجتماعي التاريخي الذي يصوغ ويطوّر مفاهيم وتوصيفات المجتمع القانونية والأخلاقية العامة، يصبح لدينا طيف واسع يكون ضمنه الفساد والاستغلال والجريمة معًا مجرد درجات مختلفة داخل نموذج مُوحَّد تتدرج ألوانه، وتتحرّك تاريخيًّا في ذات الوقت، من "الاستغلال" بطابعه الاجتماعي الذي قد يدينه المجتمع أخلاقيًّا أو لا يدينه بدرجات مختلفة، دونما إدانة قانونية، إلى "الفساد" بطابعه المؤسسي بأشكاله المختلفة ودرجات إدانته المتعددة، وانتهاءً بـ"الجريمة" بطابعها العنيف مكتمل الأركان مؤكَّد الإدانة.
وتسمح فكرة الطيف الواسع بإدراك التداخلات الوسيطة بين المفاهيم الثلاثة، فمن الاستغلال أشكال متداخلة مع الفساد (وهذا ما يُعرف بالفساد الهيكلي)، ومن الفساد أشكال متداخلة مع الجريمة (والتي تنتمي في أغلبها إلى الفساد الفردي العَرضي)، فيما تتوسّط الدرجة الوسيطة من الفساد بصورته الأكثر نقاءً بينهما (والتي تنتمي في معظمها لما يُعرف بالفساد المؤسسي)، وهي الدرجة الأكثر اتصالاً بالاستبداد بمعناه السياسي الضيق، والتي تخلق معه "مُتلازمة الفساد والاستبداد" متعددة الأبعاد وخطيرة الآثار على الكفاءة الكلية والتقدم الاجتماعي.
الأبعاد الأكثر إستراتيجية للفساد المؤسسي
ضمن هذه المتلازمة، يغذّي كلٌ من الفساد والاستبداد الآخر، فمن جهة يفتح الاستبداد الأبواب واسعةً للفساد، عمدًا لإغراء الطامعين وكسب الولاءات، أو كنتيجة طبيعية لانخفاض التكلفة على المسؤولين المحميين بغطاء الاستبداد بما يوفّره من عدم شفافية وغياب للمحاسبة، من جهة أخرى يشجّع الفساد بما يوفّره من مكاسب مغرية على تعزيز النزوع للاستبداد؛ لحماية نفسه وإدامة استمراره ابتداءً، كما يخلق شبكات معقدة من المصالح ومبادلات المنافع التي تكوّن قواعد اجتماعية لحماية النظام القائم لاحقًا.
وتمثل "السرّية الضارة" (أي السرّية في ما لا ضرورة حقيقية له)؛ وبالتبعية عدم الشفافية، شرطًا ضروريًا للمتلازمة المذكورة، كذا بابًا واسعًا لاستمرار طرفيها، كما أنها بمفاهيم ومعايير الاقتصاد عمومًا، رأسماليًا كان أم اشتراكيًا لا فارق، تناقض بعض أهم شروط الكفاءة الاقتصادية الأساسية، من توافر المعلومات الكاملة، أو حتى شبه الكاملة، لكافة الفاعلين الاقتصاديين من منتجين ومستهلكين؛ بما يدعم رشادة قراراتهم الاقتصادية على المستوى "الوحدي"؛ كضرورة لتحقيق التخصيص الأمثل للموارد على المستوى "الكلي"، الأمر الذي لا يتحقّق إلا بنجاح آلية التسعير -التي تعمل كجهاز معلومات وتخصيص- في تحقيق أهدافها الإنتاجية والتوزيعية، من خلال دورها المشروط نجاحه بتوافر تلك الشفافية، في الموازنة بين الطلب والحاجات من جهة، ودرجة الندرة الطبيعية للموارد في تفاعلها مع القدرة الإنتاجية من جهة أخرى.
وبالإضافة إلى الخطورة النوعية الخاصة حال طاولت السرّية بعض جوانب الموازنة العامة، خصوصًا بما تشمله من آليات تمويل وتخصيصات إنفاق، وما يمكن أن ترتّبه من تراكم للمديونية وارتهان للإرادة الوطنية حال أساءت الإدارة السياسية التقدير بعيدًا عن الرقابة الشعبية، تستتبع السرية معها مشكلتين لا تقلّان خطورة، تمثّل أولاهما وجهًا هامًا من أكثر وجوه إهدار الموارد فسادًا ولا عقلانية، وهي مشكلة حماية السرية نفسها؛ بما تستلزمه من تكاليف وطاقات مُوجهة لتحقيق أهداف ضارة اجتماعيًا من الأساس، أما ثانيتهما، وهي الأهم، فهي ما تخلقه السرية نفسها من حالة عمى عن المشكلات الكامنة؛ بسبب غياب أية آليات عاجلة للمراقبة والمعالجة؛ حتى تتراكم المشكلات والاختناقات والخسائر الخفية، دونما كبح أو تقليص، ليصحو المجتمع المنكوب يومًا على كارثة أو انهيار لم يملك أية فرصة لمجرد المعرفة به، ناهيك عن مواجهته والاستعداد له!
تأتي مع كل ما سبق، حتمية أخرى، هي "المركزية الشاملة"؛ فحيث لا تنقسم المركزية السياسية على اثنين؛ فإنها لا تقبل انقسامًا لما عداها كذلك؛ ما دامت كافة أبعاد الكيان الاجتماعية والسياسية متشابكة؛ فتجرّ المركزية السياسية وراءها كافة أشكال المركزية الأخرى، المؤسسية والمالية والاقتصادية والثقافية، وحتى الاجتماعية إلى حد ما؛ ما ينتج عنه ليس فقط قرارات خاطئة ومنفصلة عن الإرادة الشعبية والأولويات الوطنية، بل كذلك سلسلة كاملة من أوجه الفشل وعدم الكفاءة، أبرزها كبح نمو وتطوّر الأطراف والأقاليم، وتمركز الاستثمارات والفرص عمومًا، وضعف كفاءة النظام الضريبي والسياسة المالية بمجموعها، وتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وتراجع الفاعلية العملية للدولة في الأطراف بتفاقم هشاشتها المؤسسية لصالح التنظيمات الاجتماعية والعُرفية ما قبل الرأسمالية.
وجه ثالث يلحق بما سبق، كنتاج لذات المتلازمة، هو "انخفاض حالة الثقة العامة في المجتمع"، وهي ليست مجرد عاطفة ذاتية أو موقف سيكولوجي اجتماعي، بل إنها لتتجاوز ذلك لتمثل متغيّرًا اقتصاديًا وسياسيًا مؤثراً، حد اعتبرها فرانسيس فوكوياما أحد الروافع الهامة للرخاء الإنساني في كتابه الضخم "الثقة... الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي".
بل بلغ من الأهمية حد تناوله البروفيسور دوغلاس نورث، عالم الاقتصاد المؤسساتي الأميركي وحائز نوبل الاقتصاد عام 1993، فيما اشتهر لاحقًا بـ "المصيدة النورثية لعلاقة الفقر بانخفاض الثقة"، التي وفقًا لها يؤدي انخفاض الثقة في المجتمع إلى عدم استدامة معدلات ادخار كافية لتحقيق معدلات نمو إيجابية مستمرة في الإنتاج، الأمر الذي يعزّزه ضعف أو غياب مؤسسات الردع القانوني الفعّالة التي تضمن الحقوق ومعاقبة المخادعين، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي؛ ما تكون نتيجته بالمُجمل ارتفاع تكاليف الصفقات وانخفاض الحوافز للاستثمار؛ خصوصًا الإنتاجي طويل الأجل، بل وصل نورث لاعتبار عدم تطوير المجتمعات المتخلفة لمؤسسات ووسائل إنفاذ قانون وتعاقدات فعّالة ومنخفضة التكلفة، أهم مصدر للركود التاريخي الذي تعانيه.
بل يلحق بالوجه السابق في تفاعله مع الفساد، وجه آخر هو "تفاقم اللامساواة"؛ بما ينتج بمجموعه الثلاثية المعروفة بـ "مصيدة انخفاض الثقة-الفساد-اللامساواة"، حيث تتجادل الظواهر الثلاثة مُنتجة حلقة خبيثة من زيادة الفساد لمستويات اللامساواة، فإضعاف الأخيرة للثقة العامة؛ فإضعاف قدرة الدولة على تعبئة المجتمع على سياساتها وجمع الموارد وتنفيذ أيّ برامج للتنمية والرفاهية؛ ما يضعف بمجموعه النمو الاقتصادي ويؤدي إلى مزيد من اللامساواة؛ فيتعاظم عدم الاستقرار السياسي والأمني؛ لتتجه الدولة لمزيد من الاستبداد؛ فتتعمّق بالمُجمل "متلازمة الفساد والاستبداد" نقطة البداية في كل هذه المتتابعة البائسة.
من المتلازمة المؤسسية إلى الأزمة البنيوية
مع كلّ ذلك، تظل هذه الأبعاد كافة والآثار ضمن نوع واحد من الفساد، هو الفساد المؤسسي، بشكله الأساسي المتمثل في "متلازمة الفساد والاستبداد" هذه، بما تنتجه من إهدار للموارد وسوء تخصيص للمال العام وكبح للإمكانات وتشويه للحوافز، فالواقع أن الآثار الأوسع والأخطر، هي ما تتعلّق بالمستوى الأعمق من الفساد، أي بنوع الفساد المتجاوز للفساد المؤسسي، وهو الفساد الهيكلي، الذي لا يصنعه الاستبداد بذاته، بل ربما لا يمثل الاستبداد سوى وجه من وجوهه، وهو شكل الفساد الأكثر تجذّرًا في البنية الاجتماعية، والذي يمثل القاعدة الأعمق للمتلازمة المؤسسية نفسها، كما يجرّ معه آثارا أشمل تتغلغل في كافة جنبات التكوين الاجتماعي وترتّب آثارًا أبعد على منظومة تفاعلاته وآليات عمله، إنه الشكل الخاص للقصور التاريخي للبنية الاقتصادية-الاجتماعية للمجتمع المعني، والذي يتضمّن الكتلة الأعظم من إهدار الكفاءة بأبعاد ومقاييس تاريخية، مما لا يزال مُهمشًا في أغلب الخطاب الاقتصادي والسياسي العربي، وبالأخص الخطاب الرسمي الذي يتجاهل قضية التخلّف من الأساس.