إنهيار الليرة التركية بين المؤامرة وتعمّد السلطة

09 نوفمبر 2021
محل صرافة في إسطنبول، العاصمة التجارية في تركيا (Getty)
+ الخط -

ربما يعد الانهيار المتتابع لليرة التركية أحد المشاهد الأكثر إرباكاً للمواطن التركي والعربي، ولا سيما في ظل نجاح تعافي الاقتصاد التركي في أعقاب أزمة كورونا، وتحقيقه لمجموعة من المؤشرات التي تفوّق فيها على معظم دول العالم، وانتعاش خزائنه بفعل أرقام قياسية للصادرات وعودة مبشرة للسياحة، وتعافٍ ملحوظ على القطاعات الاقتصادية كافة تقريباً، التي عاد أكثر من 90% منها إلى مستويات ما قبل الأزمة، وربما تخطى بعضها هذه المستويات، مبشراً بأعوام أكثر رخاءً على عموم الأتراك.

وجاء استمرار تراجع الليرة ليربك المشهد كثيراً، خاصة بعد استمرار ارتفاع الأسعار في السوق المحلية، وتآكل القوى الشرائية للمواطن، وازداد الأمر سوءاً بعد تأجج التضخم العالمي وانتقال نسبة لا يستهان بها إلى الداخل التركي، بالإضافة إلى قفزة متسارعة وغير مبررة في أسعار الإيجارات في مدينة إسطنبول التي يقطنها نحو 15 مليون نسمة، بخلاف الأجانب، رغم ملايين الشقق المغلقة في المدينة.

الخلاف حول أسباب التهاوي

عبر أكثر من خمس سنوات كاملة تتراجع الليرة خلالها، وحتى عام 2018 تقريباً، كانت الروايات الرسمية والشعبية تشير إلى المؤامرات الخارجية كسبب وحيد للتراجعات. وبالفعل، كشف البنك المركزي التركي عن تلاعب بعض البنوك الأجنبية بالمضاربة على الليرة، وفُرضَت عقوبات عليهم آنذاك، ورغم ذلك لم تستقر الليرة، وأخفق البنك في إيقاف نزفها المستمر.

وخلال العامين الماضيين، وبعد تحوّل تركيا إلى النظام الرئاسي، وتركز السلطات المالية والنقدية بيد الرئيس رجب طيب أردوغان، برز جلياً الخلاف الواضح بين أردوغان ومحافظي البنك المركزي، الذي اضطر الرئيس إلى إقالتهم تباعاً لمعارضتهم خفض سعر الفائدة، وخاصة مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم المحلية.

وبعد إقالة ثلاثة محافظين في عامين فقط، وتعيين الرابع الأكاديمي شهاب كافجي أوغلو، استمر الحفاظ على تثبيت سعر الفائدة، محققاً استقراراً ملحوظاً، بل تحسن سعر الليرة، ورغم ذلك تفاجأ الجميع بخفض الفائدة مرتين متتاليتين، مع إقالة ثلاثة من نواب المحافظ، وهو ما أسقط الليرة في دوامة سقوط قياسية ربما هي الأكثر عنفاً منذ عدة سنوات.

أسواق
التحديثات الحية

تزامن ذلك مع نجاحات قياسية للاقتصاد التركي أربكت التحليل كثيراً، فعادت نغمة المؤامرة، ولكن بصيغة جديدة هذه المرة، إذ تبارت تطبيقات وسائل التواصل في نقل رسالة واحدة، مفادها أنّ البنك المركزي التركي ليس مملوكاً بالكامل للدولة، وأنّ الدولة كانت تمتلك 51% منه فقط قبل تولي حزب العدالة السلطة، ونجح الحزب في زيادتها إلى 58%.

وشكك محللون في هذه الذريعة، لأنّ الليرة كانت مستقرة تحت إدارة البنك المركزي نفسه خلال الأشهر الماضية، ولم تتهاوَ كما هو الحال في كل مرة إلا بفعل تدخل السلطة في السياسة النقدية، وما يدعم هذا التشكيك، نجاح الإدارة الحالية للمركزي في زيادة احتياطي النقد الأجنبي للبلاد، وحصولها على مخصصات حقوق السحب الخاص من صندوق النقد الدولي بقيمة 6.5 مليارات دولار، بالإضافة إلى انتظار 3.5 مليارات أخرى لمواجهة الأخطار البيئية، وكلها أمور داعمة لاستقرار الليرة.

هل تتعمد السلطة خفض قيمة الليرة؟

قد تدعم وجهة النظر التي تفسر انهيار الليرة، بحجة المؤامرة الخارجية، أن الصعود الاقتصادي والعسكري والسياسي التركي، الذي بدا عصياً على المنع والتعطيل، يغضب بالطبع قوى الاستعمار والهيمنة وحلفاءها في العالم، لكن تبقى تدخلات السلطة التركية في السياسة النقدية شاهدة على مبررات أخرى لانهيار الليرة بخلاف المؤامرات، التي وإن صحّت فإنها تمتطي تلك التدخلات لتحقيق أغراض لم تكن لتتحقق في الظروف العادية.

وبذلك، فإنّه يبدو أنّ للسلطة التركية مآرب أخرى لخفض قيمة الليرة بصورة كبيرة، وفي الحقيقة فإنّ السلطة لا تخفي رغبتها المحمومة لخفض أسعار الفائدة لدعم المناخ الاستثماري والتشغيلي بالبلاد، وأنّها كذلك رصدت كما المواطنون الأثر السلبي لكلّ تدخل على انخفاض سعر الليرة، بل كانت إزاحة أي محافظ للبنك المركزي كفيلة بفقدان نسبة من قيمتها، وكذلك إزاحة أي من النواب بعد ذلك بأيام قلائل تزيد الانهيار، بما يعني أنّ السلطة جربت ثلاث مرات تبعات إزاحة المحافظين ونوابهم على انخفاض الليرة، وأنّ الإزاحة الأخيرة ربما كانت متعمدة.

خلال الأعوام الماضية جنت الدولة التركية ثمار انخفاض الليرة في صورة ارتفاعات متتالية وقياسية في الصادرات، التي من المتوقع ان تبلغ 211 مليار دولار في العام الحالي ارتفاعاً من 168 مليار دولار فقط في العام الماضي، كما جنت توطن استثمارات أجنبية مباشرة بصورة متزايدة تسعى لاقتناص رخص العمالة والمواد الخام المحلية.

بالإضافة إلى تزايد ملحوظ في الاقبال السياحي على تركيا، بل على الإقامة الدائمة بها من خلال شراء العقارات والحصول على الجنسية طبقاً للقانون الجديد، حتى أضحت مبيعات العقارات للأجانب من كلّ دول العالم أحد المحركات الرئيسة للاقتصاد، وبات من الواضح أنّ خفض قيمة الليرة يؤجج النشاط الاقتصادي المحلي.

الموقع التركي في النظام العالمي الجديد

 بعد أزمة كورونا والمشاكل المتعددة التي ما زال العالم يكافح في تقليل خسائرها، اتفق الخبراء على تشكّل نوع جديد من العولمة، فذهب البعض إلى الأقلمة، وآخرون إلى المحلية وتزايد دور الدولة، ورغم هذا الخلاف في وجهات النظر حول المستقبل، هناك نقطة اتفاق بارزة على خطورة استمرار الاعتماد على المصنع الصيني، الذي فشل في تلبية الاحتياجات العالمية خلال الأزمة وبعدها، لذلك إن أجزاءً من هذا المصنع الضخم نشهد ارهاصات نقلها إلى أماكن أخرى حول العالم، من بينها تركيا والهند وغيرها من الدول التي تتوافر فيها معايير توطن المشروعات، وفي مقدمتها انخفاض سعر العملة المحلية، وبالتالي انخفاض أجور العمال، والمواد الخام المحلية، وباقي تكاليف الإنتاج.

الإدارة التركية تسابق الزمن لفرض الاقتصاد على الخريطة العالمية الجديدة، خاصة أن تركيا تمتلك القوى السكانية والعمالية الكبيرة والمدربة ورخيصة الأجر، التي يمكن أن تتزايد بإضافة السوريين إليها، كذلك فإنها تمتلك شبكة لوجستيات ضخمة ومتقدمة يدعمها الموقع الاستراتيجي للبلاد القريب من أوروبا القديمة وشمال العالم، علاوة على شمال أفريقيا، بالإضافة إلى خبرات إنتاجية وتصديرية كبيرة، ولا سيما في الصناعات الثقيلة، ولدى تركيا بالفعل فروع لمعظم الشركات الكبرى في العالم، علاوة على ما يتمتع به الإنتاج التركي من جودة وسمعة طيبة حول العالم، ويدعم كلّ ذلك انتشار عسكري آخذ في التمركز المدروس.

وفي إطار هذه المنافسة على التموضع الجديد، يبدو أنّ خفض قيمة الليرة التركية من خلال الإقالات المتتابعة لمحافظي البنك المركزي يدعم تحقيق أهداف هذا التموضع، ولا سيما بعدما أصبحت أقل سعراً من اليوان الصيني، وبعض عملات شرق آسيا المنافسة، ومن الواضح أنّ الإدارة التركية تراهن على قدرة المواطن على تحمّل التبعات.

انخفاض الليرة والانتخابات المقبلة

تتراكم شواهد تعمّد خفض قيمة الليرة من قبل الإدارة التركية، ولا يعني هذا نفي شواهد عملية أخرى للانخفاض مثل عجز الميزان الجاري، أو الديون الخارجية المتراكمة على القطاع الخاص، أو حتى المؤامرة التي تقودها قوى الهيمنة العالمية، لكنّ الوزن النسبي المرجح للتعمد يزداد ثقلاً يوماً تلو الآخر، لكن تدحضه أجواء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي من المقرر تنظيمها في يونيو/ حزيران 2023، وأنّ هذا الخفض التضخمي المتزامن مع موجة تضخم عالمي محموم، سيعصف بمستوى جودة حياة الطبقات التركية الفقيرة والمتوسطة، ما يعرقل استمرار السلطة في هذا التوجه.

يبدو أنّ السلطة التركية تراهن على سرعة التموضع الجديد وقدرة المكانة المأمولة على تعويض بعض من مستوى معيشة عموم الشعب، خصوصاً أنّها ستخفض معدلات البطالة بصورة كبيرة، لكن من المؤكد أنّ هذا الرهان يجب أن يستكمل ببرامج نوعية سريعة لمواجهة الفقر، وقفزات مستوى إيجارات المساكن، بالإضافة إلى أنّ الفترة الزمنية حتى الانتخابات ليست بالطول الكافي لعلاج كلّ هذه الآثار السلبية.

المساهمون