من التضليل ربما، إن لم نقل الخيانة للواقع والوقائع، الحديث عن "رحمة" الاحتلال الإسرائيلي، وأنه يبلّغ عن الأهداف التي سيقصفها، لإخلائها من المدنيين أو تقليل عدد القتلى والخسائر الاقتصادية.
لأن وقائع أسبوع من الوحشية، سجلت بقطاع غزة المحاصر منذ عقد ونيف، أكثر من 180 شهيداً، أكثر من 90% منهم، مدنيون عزل و30% منهم أطفال ونساء، وذلك إثر تراكم الحقد ومحاولات التخريب عبر 20 قذيفة كل دقيقة، أمطرتها آلة الحرب الإسرائيلية، على مصرف ومبان سكنية ومجمعات تجارية على قطاع غزة.. فأين "الرحمة" التي حاولت بعض الأبواق تسويقها؟!
الآن، الاحتلال أبلغ قبل قصف برجي" الجلاء والشروق" اللذين يحويان مكاتب لمؤسسات إعلامية، أن الجريمة تكمن بقصف الأبراج التجارية أصلاً، لمحاولة إبعاد عيون الصحافيين وعدسات كاميراتهم عن حقائق العدوان، ومحاولات طمس وتزييف الجرائم.
ولو تابعنا مع تلك "الدعاية المضللة" لنسأل، هل أبلغ الاحتلال قبل هدم 100 منزل فوق ساكنيهم، هل أعلّم قبل الضرر بـ770 وحدة سكنية، تشرّد جراءه آلاف العائلات؟!
أم أن البحث بهذه الجزئية، أصلاً فخ وتضليل، وذلك ليس فقط، لأن سلوك وخطط الاحتلال منذ أربعينيات القرن الماضي، اعتمدت استهداف المدن وتدمير المباني وطمس المعالم "ذبح المدينة" بالانطلاق من نزعة متأصلة في الأيديولوجيا الصهيونية، بل ولأن أي نقاش يبتعد عن المنطلق، بأن الكيان الصهيوني محتل للأرض الفسلطينية ويحاول منذ ما قبل نكبة 1948، وقت كانت نسبة العرب المسلمين بنحو 80% ولا تزيد نسبة اليهود عن 3%، تغيير المعالم والعبث بالديموغرافيا والتوسع عبر سرقة الأراضي والبيوت، لإحلال الوافدين فيها.
خطط الاحتلال منذ أربعينيات القرن الماضي، اعتمدت استهداف المدن وتدمير المباني وطمس المعالم
بيد أنه، وعلى الرغم من محاولات التضليل بصرفنا إلى بعيد عن السبب والحقائق التاريخية، الأرجح أن التغاضي عن التدمير والتخريب ومرامي الاحتلال من تشريد وتجويع الفلسطينيين، فيه انسياق آخر للمرامي الإسرائيلية، إذ لابد من الوقوف ومطولاً، عند أهداف إسرائيل الاقتصادية من القصف والتفقير وإشغال المجتمع المقاوم بلقمة عيشه ومسكنه.
وربما هدف الإشغال بالخسائر وتردي الخدمات، ليس لأهل غزة الذين فاقت خسائرهم خلال أسبوع من القصف الاسرائيلي 180 مليون دولار، بل وللدول التي ستتكفل بالمعونة وإعادة الإعمار، إذ ثمة فصل آخر من المساومة والتضليل حينذاك، عبر السماح بالإدخال والموافقة على التمويل وتوزيع المساعدات، وكل هذا إن لم نبحث بالأثمان التي ستدفعها الدول الممولة، ايديولوجيا واقتصادياً.
ولكن بالمقابل، هل الخسائر الفلسطينية هي كل المشهد، وهل العقبات ستكون فقط، بوجه الممولين والداعمين لإعادة إعمار غزة، أم ثمة وجه آخر يحاول الإعلام تغييبه، وهو خسائر إسرائيل عموماً والاقتصادية منها على وجه التحديد.
إذ لم تعلن المؤسسات الإسرائيلية حتى الآن، آثار وخسائر مفاجأتها ولأول مرة، بمبادرة القصف من المقاومة، بل اقتصر موقع "ذا ماركر" الاقتصادي القريب من صحيفة "هارتس" بعموميات للآثار الاقتصادية المحتملة للعملية العسكرية، ولم يشر المحلل الأبرز بالموقع "آبي بار ايلي" إلا إلى أن التصدي لصواريخ حماس يكلف 200 مليون شيكل، وأن خسائر كل يوم حرب تزيد عن 100 مليون شيكل" الدولار 3,275 شيكل"، ومقاربة من بعيد لأكلاف حرب" الجرف الصامت" عام 2014 التي نافت 9 مليارات دولار واحتمال وصول الحرب الحالية لنصف المبلغ.
قصارى القول: لن نفتي بخسائر لم تزل معرضة للزيادة، سواء من تهديم أو تكاليف التصدي لصواريخ المقاومة أو حتى كلفة الحرب اليومية على دولة الاحتلال، بل سنحاول البحث بقطاعي "السياحة والاستثمار" اللذين يعتبران من روافع الاقتصاد الاسرائيلي ويضعان الأمان في رأس أولوياتهما.
فبواقع تعليق شركات عالمية لرحلات الطيران من وإلى إسرائيل، وما بدأ يقال عن خلو شواطئ إسرائيل من السياح، وإخوتنا الإماراتيين والبحرينيين الموعودين هذا الصيف، بعطلة دسمة على شواطئ بحار الشركاء الجدد.
ربما ليس من المهم أن يصيب صاروخ المقاومة، إسرائيلياً أو سائحاً أو مستثمراً، أو أن يعطل رحلة طيران أو حتى يهدّم منشأة، بقدر ما تكمن الأهمية بإيصال رسالة عدم الأمان إلى الجميع
يبدو أن قطاع السياحة سيكون الأسرع تضرراً، إذا ما طال أمد المعارك ووصلت صواريخ المقاومة إلى مطاري" بن غوريون ورامون" وهددت المواقع السياحة المشهورة ما بعد وسط وجنوبي إسرائيل، بعد إعلان المقاومة عن صاروخ "عياش" ذي المدى البعيد "250 كيلومترًا" الذي يمكن أن يهدد عكا وحيفا، ما بعد تل أبيب شمالاً ووصولاً إلى إيلات جنوباً.
فقطاع السياحة الذي درّ على إسرائيل عام 2019، قبل جائحة كورونا نحو 6.65 مليارات دولار جراء استقبال 4.55 ملايين سائح، بزيادة أكثر من 55% عن عام 2018، بعد الترويج للأمان، مهدد، بعد فقد الأمان اليوم، بمزيد من الخسائر التي منيّ بها العام الفائت والتي اقتربت من 5 مليارات دولار.
وأما الاستثمار الذي تعوّل عليه إسرائيل أولاً، بعد وصول الاستثمارات الصينية إلى 3.5 مليارات دولار وتعدت الأميركية 21 ملياراً والهولندية 13.5 مليارا والكندية إلى 4.7 مليارات، وهكذا وصولاً لتأسيس الإمارات صندوقا بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات بإسرائيل، فهو من سيتلقى الضربة الأوجع، وعلى الأرجح، إن استمرت المعركة كما يعد نتنياهو، ففضلاً عن هروب الأموال الساخنة، خاصة المستثمرة بالبورصة، فإن 300 شركة متعددة الجنسيات، جذبت فروعها إسرائيل في العقدين الأخيرين، ستعيد النظر، بعد أن اهتزت دعاية المناخ الآمن والمربح التي تروجها إسرائيل، خاصة بقطاعات التكنولوجيا والاتصالات والأجهزة الطبية والزراعة والطباعة الرقمية، لأن رأس المال قد يتقبل أي معوقات، إلا فقدان الأمان وزيادة المخاطر.
نهاية القول: ربما ليس من المهم أن يصيب صاروخ المقاومة إسرائيلياً أو سائحاً أو مستثمراً، أو أن يعطل رحلة طيران أو حتى يهدّم منشأة، بقدر ما تكمن الأهمية بإيصال رسالة عدم الأمان إلى الجميع، وهذا هو الربح الأهم الذي حققته المقاومة الفلسطينية والخسارة الأبلغ والتي لم تعوّض، التي منيت بها دولة الاحتلال، هذا إن لم نأت على رسائل خطرة، ربما فهمها الوافدون من أصقاع العالم إلى أرض الأحلام الموعودة، وهي أن إسرائيل وأمام الجيل الثالث بعد النكبة الذي ظن العالم أنه سيبيع ويطّبع ويتلاشى، هي إلى زوال حتمي.
فالفلسطيني الذي يواجه عوامل سلب الأرض والهوية وحتى الآمال منذ 73 عاماً، انفجر هذه المرة، بعد أن وحده الأقصى وحقوق سكان حي الجراح، فخرجت معادلة غزة والضفة الغربية وأراضي 48 "الخط الأخضر" لتسوّق انتفاضة اليوم، فلسطين الواحدة بوجه آخر احتلال مباشر بالعالم.