في مطلع شهر سبتمبر/أيلول الحالي، دخل البرلمان اللبناني رسميّاً مهلة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، خلفاً للرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وكما هو معلوم، لم يجتمع البرلمان حتّى اللحظة لانتخاب الرئيس المقبل، بانتظار التفاهمات السياسيّة التي يمكن أن تفضي إلى تأمين حد أدنى من التوافق على هويّة الرئيس العتيد.
ومن الناحية العمليّة، يبدو أن جميع القوى السياسيّة بدأت تعدّ العدّة لفترة طويلة من الفراغ الرئاسي، بعدما تلمّست صعوبة تأمين هذا التوافق قبل انتهاء ولاية عون.
والعارفون بطبيعة النظام السياسي في لبنان، يعلمون حتماً مدى صعوبة تمرير هذا النوع من الاستحقاقات الدستوريّة، من دون الدخول في فترات طويلة من الفراغ في سدّة الرئاسة. فالرئيس عون نفسه، لم يُنتخب سنة 2016 إلّا بعد سنتين ونصف السنة من الشغور في منصب رئاسة الجمهوريّة.
أمّا سَلف عون، أي الرئيس ميشال سليمان، فجرى انتخابه عام 2008 بعد نصف سنة من الشغور الذي تلى انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود عام 2007.
وحتّى ولاية لحود نفسها، لم تخلُ قبلها من العبث في مواعيد الاستحقاقات الدستوريّة، بعدما تم تمديدها سنة 2004 لثلاث سنوات إضافيّة، بموجب تعديل دستوري إشكالي.
باختصار، لم ينتظم تمرير استحقاق انتخاب رئيس الجمهوريّة في لبنان بحسب المواعيد الدستوريّة بعد انتهاء ولاية أي رئيس منذ أكثر من 18 عاماً.
وحتّى قبل اتفاق الطائف، الذي أنهى سنوات الحرب الأهليّة، يذكر اللبنانيّون جيّداً حقبة الفراغ الرئاسي بين عامي 1988 و1990، والتي أدّت بدورها إلى انقسام مؤسسات الدولة بين حكومة مدنيّة وحكومة عسكريّة ترأسها في ذلك الوقت قائد الجيش يومها ميشال عون، أي رئيس الجمهوريّة الحالي نفسه.
ولربط هذه الظاهرة بأزمة النظام السياسي نفسه، تكفي الإشارة إلى أنّ الدستور يفرض حضور ثلثي أعضاء مجلس النوّاب لتأمين نصاب انتخاب رئيس الجمهوريّة، ما يمكّن أي تحالف سياسي من تعطيل جلسات الانتخاب في حال عدم التفاهم على هويّة الرئيس العتيد، وهو ما جرى بالفعل بعد انتهاء ولايتي لحّود وسليمان.
وبمعزل عن هذه الطريقة في تعطيل الجلسات، من المعلوم أن الأعراف السياسيّة اللبنانيّة تفرض في العادة وجود توافق بين معظم المكوّنات الطائفيّة الرئيسيّة، قبل تمرير هذا النوع من الاستحقاقات، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي.
لكل هذه الأسباب، من المرجّح أن تدخل البلاد مرحلة الشغور في سدّة الرئاسة، ما سيترك أثره حكمًا على جميع الملفّات الاقتصاديّة الداهمة التي تتعامل معها السلطة التنفيذيّة.
لا بل من المتوقّع أيضًا أن يطاول الشلل قدرة حكومة تصريف الأعمال على التعامل مع هذه الملفّات الاقتصاديّة، بالنظر إلى عدم وجود توافق سياسي على إعطاء حكومة تصريف أعمال صلاحيّات إدارة السلطة التنفيذيّة بغياب رئيس للجمهوريّة.
مع الإشارة إلى أنّ لبنان لا يملك أساسًا اليوم حكومة مكتملة الصلاحيّات، بعدما تعذّر تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابيّة، ما ترك صلاحيّات تصريف الأعمال للحكومة المستقيلة. وفي حال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، فسيتعذّر تشكيل أي حكومة مكتملة الصلاحيّات لغياب رئيس الجمهوريّة، الذي يُفترض أن يوقّع مرسوم تكليف رئيس الحكومة الجديد.
وهكذا، سيعني الفراغ الرئاسي تعطيل السلطة التنفيذيّة بأسرها، وبشكل تام، نظرا لرفض بعض أقطاب النظام تسليم البلاد لحكومة تصريف الأعمال بغياب رئيس للجمهوريّة.
وعندها، سيتم تعطيل جميع مسارات المعالجة الماليّة التي يحتاجها لبنان للخروج من الأزمة بشكل كلّي، بعدما تباطأ العمل بهذه المسارات خلال الأشهر الماضية نتيجة عمل الحكومة ضمن النطاق الضيّق لتصريف الأعمال.
الفراغ في سدّة الرئاسة، وشلل السلطة التنفيذيّة، سيعنيان أولًا فرملة مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي ينتظر في الوقت الراهن إنجاز الحكومة لمرسوم مشروع القانون الطارئ لإعادة هيكلته، والذي يُفترض أن يحدد الصلاحيّات القانونيّة الاستثنائيّة التي يحتاجها مسار إعادة الهيكلة.
وتعطيل هذا المسار سيعني حتمًا إرجاء معالجة أزمة الودائع وفجوة خسائر القطاع المالي. كما سيعني الفراغ إرجاء العمل بمسار توحيد أسعار الصرف، الذي يُفترض أن تشرف عليه الحكومة ضمن سياستها الماليّة، بالتنسيق مع المصرف المركزي والسياسة النقديّة التي يعتمدها.
وعندها، سيكون من المحتّم استمرار الأزمة النقديّة التي تشهدها البلاد، والتي تؤدّي إلى الانهيارات المتواصلة في قيمة العملة المحليّة.
وبشكل عام، من المتوقّع أن تتعثّر الدولة في تنفيذ شروط التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، بما فيها تلك التي تحتاج إلى قوانين يجب أن تعمل الحكومة على صياغتها كمراسيم مشاريع قوانين.
وعدم تنفيذ هذه الشروط سيعني تعذّر الانتقال إلى مرحلة التفاهم النهائي على برنامج قرض مع الصندوق، والذي يحتاجه لبنان كشهادة "حسن سلوك" قبل التفاوض لإعادة هيكلة ديونه وقطاعه المصرفي، خصوصًا بعدما أظهر النظام السياسي منذ العام 2019 عدم جديّته في تنفيذ أي من الإصلاحات المطلوبة للخروج من الأزمة.
لكل هذه الأسباب المتصلة بالوضع الاقتصادي الخطر والحسّاس، يحتاج لبنان إلى تمرير استحقاق انتخابات رئاسة الجمهوريّة في الوقت المحدد دستوريًّا، ودون الدخول في لعبة تعطيل المؤسسات الدستوريّة لفرض شروط سياسيّة. ونوعيّة الرئيس الذي يحتاجه لبنان في هذه المرحلة بالذات، تتصل بشكل وثيق بالتحديات الماليّة والاقتصاديّة التي تواجه البلاد، والتي باتت تهدد جديًّا قدرة المجتمع اللبناني على الصمود.
فعلى رئيس الجمهوريّة المقبل أن يملك مشروعًا لإعادة بناء الاقتصاد المحلّي على أسس جديدة، بعدما دمّر الانهيار أسس النموذج الاقتصادي السابق، وبحسب رؤية تحدد دور الدولة في هذه العمليّة، ونوعيّة القطاعات التي تراهن عليها في مسار التعافي الاقتصادي.
وهذه الرؤية لا يجب أن تكتفي بصياغة مقاربات لتوزيع خسائر المرحلة السابقة، بل ينبغي أن تنطلق بصياغة سياسات ماليّة ونقديّة مستقبليّة، ومشاريع للنهوض بالبنية التحتيّة، بما ينسجم مع الأهداف العامّة لمسار التعافي، وطبيعة القطاعات التي تنتظر الدولة نهوضها.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو فهم الرئيس المقبل لدور الدولة في صياغة السياسات التي تكفل حماية الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع، وهو ما يتصل بطبيعة الحال بالسياسات الضريبيّة التي ستعمل عليها الدولة.
وليتمكّن من القيام بكل ذلك، على الرئيس المقبل أن يأتي من خارج المنظومة السياسيّة القائمة، ومن خارج حساباتها ومصالحها المتشابكة مع مصالح النخبة الماليّة، التي أعاقت طوال السنوات الماضية الانطلاق بمسار التعافي والنهوض.
وكما هو معلوم، قد لا تستسيغ أحزاب المنظومة السياسيّة الإتيان برئيس من هذا النوع، لخشيتها على بعض مصالحها الماليّة. إلا أنّ كلفة عدم المضي بمسار التعافي الاقتصادي ستكون أكبر على الجميع، خصوصًا أن الاستمرار بحالة السقوط الحر كما هو الوضع اليوم سيطيح بكل مقوّمات الدولة والاقتصاد المحلّي دون استثناء.
وفي النتيجة، وفي حال انتخاب رئيس يملك توجهات إصلاحيّة، قد يكون من الممكن عندها أن يستعمل صلاحيّاته لدفع البلاد باتجاه مسار التصحيح المالي.
فالدستور يعطي رئيس الجمهوريّة في لبنان صلاحيّة ترؤّس جلسات مجلس الوزراء، وطلب إعادة النظر بأي قانون يقرّه مجلس النوّاب، كما يملك صلاحيّات طلب إعادة النظر في جميع المراسيم التي تقرّها الحكومة. وفي الوقت نفسه، يساهم رئيس الجمهوريّة، بالتفاهم مع رئيس الحكومة المكلّف، في تسمية الوزراء وتوقيع مرسوم تشكيل الحكومات.
وجميع هذه الصلاحيّات، يمكن أن تُستخدم في سبيل فرض الإصلاحات التي يحتاجها اللبنانيّون اليوم للخروج من الانهيار، إذا امتلك رئيس الجمهوريّة الأجندة الإصلاحيّة المطلوبة.