قالت لنا الحكومة المصرية إن خروج الأموال الساخنة من مصر، خلال الربع الأخير من عام 2021 والربع الأول من 2022، بقيمة تقترب من 22 مليار دولار، كان السبب الرئيسي في الأزمة التي كادت تتسبب في تخلف مصر عن سداد التزاماتها اعتباراً من شهر مارس/آذار الماضي.
وقالت أيضاً وقتها، إن السماح بتخفيض سعر الجنيه المصري، من 15.75 إلى 18.25 جنيهاً لكل دولار كان ضرورياً، في محاولة لاجتذاب تلك الأموال مرة أخرى، وأيضاً من أجل تحفيز عملية البيع لبعض الأصول المصرية، أملاً في سد الفجوة الدولارية التي ظهرت وقتها.
وقال لي صديقي الذي عمل لسنوات في أحد البنوك الإماراتية، وهي بالمناسبة أنشط مصادر الأموال الساخنة الواردة إلى مصر خلال السنوات الأخيرة، إنه جاءتهم تعليمات داخلية، خلال الربع الأول من عام 2022، أي قبل حدوث الأزمة مباشرة، ببيع استثمارات عملائهم في أوراق الدين المصرية، وشراء الدولار أو الدرهم في أسرع وقت، من أجل إعادة تحويلها إلى البنوك الإماراتية.
وبعد استقرار سعر الدولار بين 18.50-18.25 جنيها لبعض الوقت، قال لي صديقي إنهم أخبروا عملاءهم ألا يدخلوا السوق المصرية مجدداً إلا بعد وصول سعر الدولار مقابل الجنيه إلى 19.50، مشيراً إلى أن كل ما كان يحتاجه الجنيه للاستقرار هو الانخفاض بنسبة تتراوح بين 25%-%20، تقترب به من قيمته الواقعية، بدون دعم البنك المركزي المصري، وتوفر بعض "الأمان" للمستثمرين الأجانب، حتى يعودوا مرة أخرى إلى السوق المصرية.
لم تفرق أحلام العودة بين دخول الدولارات إلى البلاد في صورة استثمارات أجنبية مباشرة حقيقية، أو صورية، كالتي حدثت عند بيع حصص من الشركات القائمة والناجحة في السوق المصرية، أو حتى في صورة أموال ساخنة مستثمرة في أوراق الدين بالعملة المحلية، مع توفير عوامل جاذبة إضافية في الحالة الأخيرة، تتمثل في رفع معدلات الفائدة على الجنيه.
لكن الصورة التي تطورت بها الأمور في المراحل اللاحقة، من تسارع انخفاض سعر الجنيه في السوق الرسمية، وتنامي أنشطة التعامل في السوق الموازية، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي للدولار والسعر في السوق الموازية، ثم تباطؤ وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومع الرعاة الإقليميين، ومن بعدها وضع ضوابط شديدة لعملية الاستيراد، أدت كلها إلى فقدان الثقة، داخلياً وخارجياً في العملة المصرية، ومن ثم تأجيل أي خطوة كانت منتظرة من المستثمرين الأجانب، لحين استقرار السعر.
والآن، وبعد عدة تخفيضات لسعر العملة المصرية، وصولاً إلى مستوى يتجاوز 30 جنيهاً لكل دولار، وتجاوُز فوائد أذون الخزانة مستوى 20%، شهدنا عودة لبعض الأموال الساخنة إلى السوق المصرية، وهو ما ظهرت علاماته في طفرة في المبالغ المستثمرة في بعض عطاءات أذون الخزانة، وفي توفير المبالغ المطلوبة للإفراج عن كميات ضخمة من السلع المحتجزة في الموانئ، إلا أن الأزمة لم تحل، وإن "خفت حدتها ظاهرياً".
جملة "خفت حدتها" ترصد هنا استقرار رصيد احتياطي النقد الأجنبي في البلاد، وتراجع صافي العجز في الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي، مع الإفراج عن نسبة كبيرة من البضائع المكدسة في الموانئ المصرية. أما وصف ذلك بالـ"ظاهري"، فيرجع إلى استمرار تراجع سعر الجنيه في السوق الرسمية، وإن بمعدلات أبطأ، وعدم القدرة على توفير العملة لكل راغب في الشراء، وهو ما يدعم نشاط السوق الموازية، بالإضافة إلى استمرار عجز الميزان التجاري المصري، خلال الفترة من أول يوليو/تموز حتى نهاية سبتمبر/أيلول، بقيمة 10 مليارات دولار تقريباً.
هذه المليارات العشرة من العجز، والتي تكاد تتطابق مع متوسطنا المعتاد في كل ربع في السنوات التي أوصلتنا للأزمة الحالية، تم تحقيقها في وقت كان الاستيراد فيه مقيداً بصورة كبيرة، بسبب إلزام المستوردين بنظام الاعتمادات المستندية، الحسنة الوحيدة التي فعلها محافظ المركزي السابق قبل خروجه من الخدمة.
وبعد رحيله، فرض علينا صندوق النقد الدولي العودة للنظام القديم، المعروف باسم "بوالص التحصيل"، لتستمر الأزمة، ولا عزاء للملايين من المصريين، الذين يتحملون التكلفة الباهظة لتراجع سعر الجنيه، من تراجع في القيمة الحقيقية لدخولهم، ومدخراتهم، ومستويات معيشتهم، وكل ذلك ولم تأت الأموال الساخنة بالمبالغ التي كنا نتوقعها، أو نتمناها.
كلما تحدثت مع صديق في مصر، يفاجئني بقوله إنه أتم بالفعل تحويل نسبة كبيرة من مدخراته إلى دولار، وقام بتحويلها إلى دبي! ولما أتساءل عن الوسيلة التي تمكن من خلالها أن يفعل ذلك، على ما أعرفه من صعوبة شراء العملة الأجنبية في مصر، كان يقال لي إن هناك بعض البنوك الإماراتية (حددها بالاسم) تسمح بفتح الحسابات بالدولار في مقرها بدبي، إذا أودع العميل جنيهاً مصرياً في حسابه بفرع البنك في مصر!
أمضيت ساعات طويلة أبحث فيها عن الكيفية التي تمكن بها هذا البنك، أو هذه البنوك، من توفير العملة الأجنبية لعملائه من المصريين، في وقتٍ يعجز فيه البنك المركزي المصري عن توفير العملة المطلوبة لاستيراد بعض المواد الغذائية، فلم أتوصل إلا لحل واحد: الأموال الساخنة!
مثال: يريد العميل الإماراتي أن يستثمر المعادل لمبلغ 10 ملايين دولار، من الأموال الساخنة، في أذون الخزانة المصرية، ويوجد عدة عملاء يرغبون في تحويل المعادل لمبلغ 300 مليون جنيه إلى حساباتهم في دبي، فلا يقوم فرعا البنك، في القاهرة ودبي، بتحويل أية مبالغ عبر الحدود، وإنما هو قيد تحويل بين حسابات العملاء، يضع 300 مليون جنيه في حساب العميل الإماراتي في مصر، ويضع 10 ملايين دولار في حسابات العملاء المصريين في البنك في الإمارات، ويا دار ما دخلك شر!
الأموال الساخنة لا تأتي بالفعل إلى مصر، ولا يصل إلينا إلا مستنداتها، أما الأموال الحقيقية فموجودة في دبي، بعد أن أخرج "أولاد الحلال" أموالهم من البلاد، تحسباً لتطورات الأمور خلال الفترة القادمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.